المشهد اليمني الأول/

 

تسير زينب ابنة الاحد عشر ربيعا في ممرات مدرستها شمالي العاصمة اليمنية صنعاء، وتجول عيناها في الفصول تفتش عن طيف أبيها المدرس الذي كانت تأتنس بوجوده العام الماضي. ما زال صدى صوته يتردد في أذنيها، ولا تصدق أنها فقدت والدها الأربعيني بسبب عضة كلب.

 

 
قضي صالح مجلي حمود (43 عاماً) في أول أبريل الماضي، بعد نحو 50 يوماً من إصابته بعضة كلب في أصبع يده اليمنى، في منطقة سعوان شمال العاصمة اليمنية صنعاء. وخلال الأيام العشرة التالية للإصابة نقل مجلي ست مرات أثناء الدوام الرسمي إلى وحدة مكافحة داء الكلب بهيئة المستشفى الجمهوري الحكومي في صنعاء، وهي المركز الوحيد في العاصمة اليمنية المسؤول عن علاج داء الكلب، لكنها كانت مغلقة.

 

 
ويقول ناطق باسم البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب، إن إغلاق الوحدة استمر نحو شهرين من 27 يناير 2018 وحتى 22 مارس لعدم توفر المخصصات المالية والأمصال واللقاحات اللازمة للحالات المصابة.

 

 
وخلال الفترات المتقطعة التي عملت فيها الوحدة على مدى عامي (2017 – 2018)، استقبلت أكثر من سبعة آلاف حالة من المصابين الذين تتزايد أعدادهم مع انتشار أكثر من سبعين ألف كلب في شوارع صنعاء والأحياء القريبة منها بحسب مختار عبد النور نائب مدير إدارة مكافحة الكلاب الضالة بمشروع النظافة التابع لأمانة العاصمة. تتزايد الإصابات وسط غياب دور البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب بوزارة الصحة العامة والسكان الذي أطلق عام 1990 وإدارة مكافحة الكلاب الضالة بمشروع النظافة بأمانة العاصمة والمختبر البيطري بإدارة صحة الحيوان التابع لوزارة الزراعة والري.

 

 
ظل صالح مجلي 51 يوماً دون علاج، وبعد شهر من إصابته ظهرت عليه أعراض داء الكلب مثل القيء والخوف الشديد من الضوء والماء والتشنجات العصبية والسلوك العدواني والأرق. حاولت أسرته دون جدوى شراء الأمصال واللقاحات لداء الكلب من صيدليات في صنعاء تحصل عليها من شركات خاصة لاستيراد الأدوية.

 

 
ويقول طامش صالح طامش الطبيب المناوب في مركز الخربة الطبي بمنطقة سعوان إن الأسرة اكتفت بجرعة مضادة للتيتانوس أعطيت لمجلي فور إصابته لمنع التلوث البكتيري لموضع الإصابة.

 

 
والمصل هو عبارة عن أجسام مضادة للفيروسات يحقن بها الشخص المصاب، أما اللقاح فهو عبارة عن نسبة قليلة من الفيروس تعطى للشخص لتنشيط جهازه المناعي حتى يعمل على تكوين الأجسام المضادة.

 

 
وأظهر مسح ميداني شمل 53 صيدلية، في العاصمة صنعاء، وجود مصل داء الكلب في 3 صيدليات كبرى فقط في وسط العاصمة وبأسعار تصل إلى 25 ألف ريال (حوالي 50 دولارا). ويتوفر اللقاح بأسعار تتراوح بين 8 آلاف و13 ألف ريال، بينما يفترض أن تصرف هذه الأدوية للمرضى مجاناً، حسب البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب.

 

 
الصيدلي منصور حسان مسؤول المشتريات في صيدليات مدينة سام أوضح أن الطلب على أمصال ولقاحات داء الكلب خلال عامي (2017–2018) زاد بنسبة تصل إلى 300% عن الأعوام السابقة.

 

 
ويقول الطبيب طامش عن مجلي إنه نقل مرة أخيرة في الأول من أبريل الماضي إلى وحدة مكافحة داء الكلب بالمستشفى الجمهوري بصنعاء. شيعت زينب موكب المسافرين بقلب منقبض بعدما رأت تفاقم الأعراض على والدها في الأيام الأخيرة.

 

 
وتقول بأسى “حين بدأ أبي يخاف من الماء والضوء منعوني من رؤيته.” وقال الطبيب طامش “عند وصولنا رفضت الوحدة استقباله كوّن حالته أصبحت في المراحل الأخيرة ليموت بعدها بثلاث ساعات”.

 

 
ووفقا لكشوفات وحدة مكافحة داء الكلب، تبين إصابة 7356 شخصا بالمرض خلال عامي (2017–2018) بينها 27 حالة وفاة وسجلت خلال العام الماضي وحده 4214 حالة بينها 15 حالة وفاة.

 

 
وكشفت البيانات أن نسبة الذكور بين المصابين وصلت إلى 82% مقابل 18% من الإناث. وبلغت نسبة الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً 52.5% من إجمالي الحالات.

 

 
تفاقم الإصابات بداء الكلب تكشفه التقارير السنوية للبرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب بوزارة الصحة العامة والسكان. خلال فترة عمل البرنامج (1990_2018) حيث بلغ متوسط معدل النمو السنوي خلال الفترة الزمنية التي سبقت الحرب 17.3% للإصابات و 18% للوفيات و زادت هذه النسبة خلال فترة الحرب (2015_2018) لتبلغ 29.37% من إجمالي الإصابات و 24.5% من إجمالي الوفيات.

 

 
ويعرف الطبيب جمال محمد الشامي جراح المخ والأعصاب بهيئة المستشفى الجمهوري في صنعاء داء الكلب، بأنه مرض فيروسي معد وقاتل يسبب الالتهاب الحاد في الدماغ ويؤدي للوفاة عقب ظهور الأعراض السريرية.

 

 
وتشخص الوحدة كل الحالات على أنها من عضة كلب مسعور على سبيل الاحتياط في ظل نقص صبغة جلوبين Globin التي تستخدم لكشف فيروس داء الكلب.

 

 
محمد علي عزالدين (9 سنوات) داهمه كلب في 8 أغسطس 2017، عندما كان يلعب بدراجته بالقرب من منزل أسرته في بني حشيش شمال العاصمة صنعاء، أصيب على إثرها في قدمه وصدره فضلاً عن إصابة والدته في يدها عندما حاولت إنقاذه.

 

 
تم إسعاف محمد ووالدته إلى وحدة مكافحة داء الكلب بالمستشفى الجمهوري لكنهم فوجئوا بعدم توفر المصل اللازم لعلاجهم. أضطر رب الأسرة علي عز الدين (35عاماً) لشراء المصل بمبلغ 22 ألف ريال (نحو 44 دولار) من صيدلية خارجية. ومن سبع جرعات من اللقاح مقررة لكل فرد حصلت العائلة على جرعتين فقط مجاناً واضطرت لشراء البقية بمبلغ 130 ألف ريال (260 دولارا) من صيدليات خارجية.

 
70 ألف كلب ضال

 

يقدر مختار عبد النور نائب مدير إدارة مكافحة الكلاب الضالة بمشروع النظافة التابع لأمانة العاصمة أعداد الكلاب الضالة بنحو 70 ألف كلب، حسب إحصائيات العام 2017 ويقول إن العدد في تزايد.

 
وأضاف أن الإدارة كانت تنفذ من ثلاث إلى أربع حملات مكافحة مكثفة سنويا كان آخرها في العام 2014، وبعدها توقفت عن العمل بفعل توقف الميزانية وارتفاع أسعار المستلزمات المستخدمة.

 
وحدة داء الكلب

 

تتكون وحدة داء الكلب بهيئة المستشفى الجمهوري من غرفة واحدة مساحتها 2 في 5 أمتار، وتقع خلف مبنى المستشفى، وتحتوي على ثلاجة في الجزء الخلفي لحفظ اللقاحات والأمصال، ومكتب لتسجيل الحالات، وستة مقاعد للانتظار، وفيها يحقن المصابون بالمصل واللقاح ثم يغادرون إلى منازلهم.

 

 
تستقبل الوحدة يوميًا من 50 إلى 70 حالة تعرضت لعضات كلاب شاردة، بينها ما يقرب من 20 حالة جديدة، وفق القائمين على الوحدة الطبية. وتستقبل الوحدة وفقاً للسجلات المصابين من المحافظات المحيطة بالعاصمة وهي، المحويت، وعمران، وحجة بالإضافة الى امانة العاصمة ومحافظة صنعاء التي تنتمي لها منطقة سعوان حيث كان يعيش مجلي وابنته زينب.

 

 
ورغم وجود وحدات مماثلة في المحافظات المحيطة بالعاصمة، إلا أن توقف عمل بعضها وبعد مسافة وحدات أخرى دفع أبناء هذه المحافظات للقدوم إلى وحدة مكافحة الداء في العاصمة.

 

 

وخلال الفترة (2015–2018) توقفت الوحدة أربع مرات بسبب عدم توفر اللقاحات والأمصال نتيجة لتوقف الميزانية التشغيلية منذ العام 2015. وفرضت الوحدة 250 ريالا (0.5 دولار) عن كل مراجع كرسوم تشغيلية تصرف على الكادر العامل في الوحدة، بحسب الطبيب عبده صالح غراب مسؤول الوحدة.

 

 
إهمال بعد الحرب

 

يقول غراب، إن الدعم المادي للوحدة ورفدها بالأمصال واللقاحات من قبل البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب توقف بسبب الحرب. وأضاف أنها أصبحت تعتمد على المنظمات الصحية العاملة في اليمن لتوفير اللقاحات، وبالرغم من ذلك تنقطع لفترات طويلة قد تصل إلى خمسة أشهر. وقال إن الأمصال غير متوفرة لدى الوحدة من عامين، ولذلك تعمل على توفير اللقاحات فقط في حين تطلب شراء الأمصال من الصيدليات التجارية.
 

وأضاف أنه بسبب عدم وجود كادر طبي كاف لتغطية فترات العمل نتيجة غياب الميزانية التشغيلية وتوقف صرف الرواتب؛ اقتصر عمل الوحدة على فترات الدوام الرسمي من الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهرا. ويضم الطاقم حاليا اثنين فقط مقابل خمسة قبل اندلاع الحرب.

 
وقال إن الوحدة تفتقر إلى أساسيات العمل الطبي، وبعد اندلاع الحرب لم تعد تحظ بالاهتمام والمتابعة من البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب “بالإضافة إلى ضيق مساحتها وانعدام التهوية المناسبة ونقص المغاسل والأدوات الطبية والأسرة اللازمة لاستقبال الحالات وعلاجها.”

 
توقف الميزانية وهجرة الموظفين

 

تبين تقارير البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب أن أمانة العاصمة هي ثالث محافظة في عدد الإصابات في اليمن بعد محافظة ذمار واب على مستوى الجمهورية وبنسبة تصل إلى 25.6% لأمانة العاصمة و25.8% لمحافظة اب و33% لمحافظة ذمار.

 

 
مدير البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب بوزارة الصحة العامة والسكان أحمد حسن الورد أوضح أن دور البرنامج هو دعم وحدات المكافحة بالخدمات الاسعافية والتثقيفية، غير أن عمل البرنامج توقف بسبب الحرب وتوقف الميزانية، وقال: “كانت الميزانية تقدم من الدولة بنسبة 95% وتتكفل منظمة الصحة العالمية بما نسبته 5% وتصل في مجملها إلى 63 مليون ريال سنويا نحو (120 ألف دولار).

 

 
وأضاف الورد أن البرنامج يحتاج 30 ألف جرعة من اللقاحات سنويا. وتابع “قدمنا نداء استغاثة للمنظمات الصحية العاملة في اليمن ولم نتلق استجابة باستثناء منظمة الصحة العالمية التي وفرت 3900 جرعة فقط من اللقاحات” أي 13% من الاحتياجات.

 
وقال “نحن مهددون دائما بالتوقف بسبب عدم توفر اللقاحات”، وأرجع الورد أسباب زيادة الحالات في العاصمة صنعاء إلى زيادة أعداد الكلاب الشاردة في العاصمة بنسبة 100 % خلال الفترة 2014- 2018 إضافة إلى قدوم العديد من الحالات من محافظات أخرى.

 
وتابع: “للأسف نحن غير قادرين على الالتزام بتوفير اللقاحات والأمصال ورواتب الموظفين”.

 
وإلى جانب توقف الميزانية والرواتب، هناك حالة من هجرة الموظفين من البرنامج. وحسب الورد فإن 20% من الموظفين انتقلوا خلال فترة الحرب وانقطاع الرواتب إلى وحدات أخرى تتلقى دعما أفضل.

 
وهو ما يؤكده أحمد محمد* (32 عاماً)، أحد موظفي البرنامج الذين انتقلوا للعمل في وحدات علاجية أخرى تابعة للوزارة، بقوله “انتقلت أنا ومجموعة من زملائي إلى برامج أخرى كالكوليرا والدفتيريا والسحايا وغيرها من البرامج التي تحظى بالدعم المادي والمعنوي من الوزارة والمنظمات الصحية العاملة في اليمن.”

 

 
الدكتور يوسف الحاضري الناطق، الرسمي باسم وزارة الصحة في صنعاء، قال إن البرنامج كان معتمدا بشكل كبير جدا على الدعم الحكومي والذي توقف في الفترة الأخيرة بسبب الحرب والحصار على اليمن، وأوضح أن لا خيار ولا حل سوى انتقال العاملين في البرنامج إلى برامج أخرى. وقال “أن يعملوا في برامج أخرى أفضل من توقفهم عن العمل “.

 


جانب آخر من المشكلة

 

الموارد القليلة المتاحة من الأمصال واللقاحات تتعرض للإهدار بسبب استهلاكها في حالات لم تصب بالسعار نتيجة نقص صبغة جلوبين التي تستخدم للكشف عن فيروس داء الكلب مما يدفع المعامل إلى تشخيص كل الحالات على أنها مصابة بالسعار.

 

 
يفتقر المختبر البيطري التابع للإدارة العامة لصحة الحيوان بوزارة الزراعة والري منذ منتصف 2015 لصبغة جلوبين. وأوضح عقيل المتوكل مدير المختبر البيطري أن المختبر يقوم بتسجيل العينات فقط وتقديم نتائج إيجابية لكل العينات نظرا لعدم فحصها.

 

 
وأضاف “أنا لا أملك الصبغة وليس هناك حل بديل، ولذلك أعطيه اللقاح حتى لو كانت حالته سلبية”.

 

 
وأفاد أن اللقاح لا يضر المصاب حتى لو كانت حالته سلبية لأن دوره تنشيط جهاز المناعة.

 

 
وأضاف أن المختبر توقف تماما عن دوره التشخيصي منذ العام 2015 واقتصر دوره على تدوين المعلومات.

 

 
مدير البرنامج الدكتور أحمد الورد أرجع إيقاف الصبغات والدعم عن المختبر إلى توقف ميزانية الوزارة. من جانبه أكد محمود البحري نائب مدير عام الجمعيات والمنظمات بمكتب الشئون الاجتماعية والعمل بأمانة العاصمة أن توقف المنظمات عن تقديم الدعم اللازم للبرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب ووحدات مكافحة الداء والمختبر البيطري عائد إلى أن البرنامج لا يقع ضمن اختصاصات المنظمات ولا يحظى بدعم الممولين عند تقديم البرنامج ضمن الأنشطة.

 

 
نداء استغاثة صادر عن وزارة الصحة العامة والسكان لمنظمة الصحة العالمية يطالبها بتوفير لقاحات داء الكلب بصورة عاجلة 2017
 

ومن جانبه، قال الدكتور عبد الناصر الرباعي مدير إدارة الترصد الوبائي في منظمة الصحة العالمية، إن وباء داء الكلب يقع ضمن البرامج والمنح التي تقدمها المنظمة وان أي طلب يأتيها من وزارة الصحة ممثلة بالبرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب عن احتياجات في الأمصال واللقاحات، يتم التعامل معه بجدية. لكنه أضاف أن اللقاحات والأمصال غير متوافرة في السوق المحلية ويستغرق استيرادها بعض الوقت ، هذا وكانت المنظمة قد قدمت منحتها الأخيرة للبرنامج في مايو العام الماضي.
 

حال البرنامج يعبر عنه موظفه السابق أحمد محمد* (32 عاماً)، بقوله “البرنامج مصاب بالشلل الكامل، لم نكن نعمل شيئا سوى الجلوس على الكراسي”.

 

 
زينب أيضا تجلس على الكرسي في فصلها الدراسي، وفي كل يوم ترسم قلوبا جديدة يخترقها سهم الحب على هوامش الكتب وصفحات الكراسات، وتكتب بجوارها “أحب أبي”.

 

 
أنجز هذا التحقيق بدعم من “شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية” (أريج) وبإشراف خالد الهروجي.