المشهد اليمني الأول/

يكتشفُ الأمريكيون كل يوم فداحة الأخطاء التي بنوا على أساسها حصارهم الاقتصادي الخانق على إيران. كانوا يعتقدون أن حربهم الاقتصادية على الجمهورية الإسلامية مع توتير عسكري محدود في الخليج مع تحشيد للقطع الاستراتيجية في بحره أكثر من كافٍ لتفجيرها.

لكنهم تلقوا سيلاً من المفاجآت غير المتوقعة وتتلخّص بعناوين كبيرة: أولاً القدرة الإيرانية على التعامل مع أقسى تدابير اقتصادية ممكنة في التاريخ المعاصر، وثانياً الاستعداد العسكري الإيراني المتأهب لمجابهات طويلة الأمد بوسعه حماية البلاد والدولة معاً، علماً أن الإيرانيين يعرفون ان الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر قوة كونية معاصرة تجمع بين الابعاد العسكرية والاقتصادية والسيطرة الجيوبوليتيكية على ثلاثة أرباع العالم، بيد أنهم يدركون أيضاً ان تجارب فيتنام وافغانستان والعراق وسورية وفنزويلا وكوبا هي نماذج معاصرة جابهت الهيمنة الأميركية بفعالية. فلماذا لا تكون إيران واحدة من هذه النماذج وهي التي تقاوم المحاولات الأميركية لتدمير دولتها منذ 1980 من دون كلل أو وهن!

المفاجأة الثانية التي أصابت الطموح الأميركي بركلة على رأسه هي استعداد التحالفات الإقليمية لإيران بالانضمام اليها في حالة تعرّضها لأي هجوم أميركي.

أما الثالثة وما يليها فهي حشر الأميركيين في زاوية ضيقة لم يتمكنوا بموجبها من الدفاع عن بقرتهم الحلوب السعودية من الطائرات اليمنيّة المسيّرة والصواريخ التي تستهدف يومياً الوظائف الأساسية للسعودية من النفط الى استهلاك السلع الغربية.

يبدو أن المشهد اليوم مثيراً للاهتمام لأن تصدير النفط السعودي أصبح ضمن السيطرة اليمنية من ينبع على البحر الأحمر المتصلة بقناة السويس من خلال أعالي البحر الاحمر وعبر بحر عدن في اتجاهي المحيط الهندي او البحر الاحمر لجهة باب المندب.

للتذكير فإن السعودية لم تتعرض لأي هجوم على اراضيها بسبب معاهدة كوينسي التي عقدتها مع الأميركيين في 1945 على أساس حمايتها مقابل اهمياتها الاقتصادية والدينية.

لذلك فهي المرة الاولى التي ينجح فريق هو أنصار الله اليمنيون في اختراق المناطق السعودية المقابلة لأعالي صعدة اليمنية والسيطرة عليها وسط صمت أميركي مريب، كما أنها المرة الأولى التي تُصاب فيها أهداف اقتصادية عسكرية داخل المملكة ولا يتحرّك الغرب لنجدتها.

كان الأميركيون يعتقدون أن انهيار إيران يؤدي تلقائياً الى سقوط العراق وسورية ولبنان واليمن، هناك مباغتات إضافية نالت من كبرياء الأميركيين وبدأت بقصف ناقلة نفط قرب إمارة الفجيرة وسقوط صاروخ وقذيفة قرب مواقع أميركية في العراق وتفجير ناقلتين قرب مضيق هرمز بين إيران وخليج عمان وإسقاط طائرة مسيرة أميركية هي الأحدث من نوعها عند الحدود البحرية لإيران.

لقد اكتشف الأميركيون ان محاولة خنق إيران اقتصادياً لم تؤدِ الى زحفها نحو المفاوضات بالإكراه وفق سيناريو مسبق وشروط خاصة بالمهزومين فقط. ويصادف أن إيران ليست مهزومة ولا تعتبر نفسها على هذا النحو. لذلك اجتمع شرط القدرة الإيرانية على استيعاب الحصار الاقتصادي والقدرة التكنولوجية الأميركية بتكنولوجيا إيرانية وازنة، اجتمع مع وقفة التحالفات الاقليمية لإيران، مسببين للأميركيين جموداً في الحركة العسكرية انما حتى إشعار آخر.

وهذا لا يعني أن هناك ضعفاً بنيوياً أميركياً بقدر ما يشكل اعادة تقييم للمباغتات التي انبثقت ولم تكن بحسبانهم.

هذا ما يدفع بالأميركيين الى اساليب جديدة لعدوانهم على إيران وقد يتبنون تصعيداً كبيراً للحصار الاقتصادي مع التعرّض في مياه الخليج لقطعة بحرية إيرانية لاستعادة اعتبارهم المتراجع ومكانتهم المهزوزة واسترجاع ثقة حلفائهم بهم من «إسرائيل» الى الخليج في البحرين والسعودية والإمارات.

المعتقد هنا ان الأميركيين محتاجون الى عمل معنوي قبل انعقاد صفقة القرن بعد بضعة أيام في البحرين للزوم التحشيد. فهل يفتعلون «غارة غير مؤذية» او يغطون اعتداء إسرائيلياً على اهداف في سورية فيما تزعم معلومات غربية أن تخطيطاً سعودياً أميركياً إسرائيلياً يجري الإعداد له لتسديد ضربة لأنصار الله في اعالي صعدة. الثرثرات هنا كثيرة ولكن ما يلجم الأميركيين هو أن أي اعتداء في إيران او سورية واليمن ولبنان قد يؤدي الى حرب إقليمية تشمل العراق أيضاً.. وهنا يكمن اللغز؟ كيف ينفذ الأميركيون غارة محدودة في الزمان والمكان ليست لها تداعيات إقليمية؟

الروس بدورهم أكدوا للأميركيين أمس، أن بركاناً إقليمياً قابلاً للانفجار في اي لحظة يعتدون فيها على أي طرف من حلف المقاومة من إيران الى لبنان. الأمر الذي يتسبب بضيق في الخيارات امام البنتاغون الأميركي وبيته الابيض. ويعطي إيران فرصة التمرد على مشروع خنقها اقتصادياً بالمزيد من الحركة الإقليمية المتواكبة مع دفاعها عن سيادتها الوطنية آخذاً بعين الاعتبار اصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الاكتفاء بعملية محدودة لا تؤدي الى حرب كبيرة قد تؤدي الى خسارته في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2020.

هناك اذاً صراع بين استراتيجية إيرانية تعمل في الداخل والإقليم معاً مقابل حصار أميركي عليها يُصرُ على محدودية حركته العسكرية لأسباب أميركية وإقليمية رافعاً من مستوى حركته الاقتصادية.

فما هو الاحتمال الأكثر منطقية؟

تجاهد إيران في ملعبها التاريخي وتستفيد من التصدي التدريجي لروسيا والصين لأميركا مقابل انحسار الدور الأميركي الذي يريد المحافظة على أحاديته بموازين قوى إقليمية ودولية لم تعد لمصلحة تمسكه بالهيمنة على العالم بأسره، ونجاح إيران في التمرد على القوة العالمية الأميركية وكسر الحصار عليها، هي المرحلة الثالثة من تهشيم التفرد الأميركي ودفعه نحو تعددية قطبية من شأنها التخفيف من حدة الصراعات والحروب في العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
د. وفيق إبراهيم