المشهد اليمني الأول/

ليس الغريب والخارِج عن القيَم، والأعراف، أن يرفُض الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب طلب السيدة أغنيس كالامارد، المُقرّرة الخاصّة للأُمم المتحدة إجراء تحقيقٍ دوليٍّ في جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وتكليف مكتب التّحقيق الفِيدرالي الأمريكيّ (FBI) بمُلاحقة الجُناة داخل الولايات المتحدة المُتورّطين في الجريمة، وإنّما أيضًا التّبريرات التي ساقها في هذا المِضمار، وبِما يُشكّل نسفًا لكُل الادّعاءات حول الحريّات والعدالة والقَضاء المُستقل التي تُشكّل أبرز مواد الدّستور الأمريكيّ.

تقرير السيدة كالامارد، الذي استغرق إعداده ستّة أشهر وشارك فيه مُحقّقون دوليّون من المَعروفين على المُستوى الدولي بنزاهتهم ومهنيُتهم العالية، وجّه أصابع الاتّهام إلى الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعوديّ باعتباره المَسؤول الأوّل عن هذه الجريمة، وطالب بتجميد أمواله وأصوله الماديّة حتى يُقدّم الأدلّة حول براءته، وقالت صاحبة التقرير إنّها استمعت إلى أشرطةٍ صوتيّةٍ مُرعبةٍ حول كيفيُة خنق الضحيُة وتقطيعها بالمِنشار.

السلطات السعوديّة اعترفت بمسؤوليّتها عن هذه الجريمة البَشِعة، ولكنّها أكّدت في ردّها على هذا التّقرير الذي رفضته عدم وجود أيّ دور لقيادة المملكة في قتل الخاشقجي وإنّها تُحاكم 11 شخصًا بالتورّط فيها، يُواجه خمسة منهم عُقوبة الإعدام.

الرئيس ترامب قال بكُل وقاحة، وبلُغة السّماسرة وتجّار العقار، في لقاءٍ له مع برنامج “لقاء الصّحافة” على شاشة محطّة “إن بي سي” أنّه تم التّحقيق بشكلٍ كافٍ ومُكثّفٍ في هذه الجريمة، وأنّ السعوديين يشترون صفَقات أسلحة بقيمة 150 دولارًا، وإذا لم يشتروها منّا، فإنّهم سيشترونها من روسيا والصّين”.

إنّها عقليّة الابتِزاز والتربّح بكُل الطّرق والوسائل، وبغضّ النّظر عن أيّ اعتبارات قيميّة أو أخلاقيّة أُخرى، ومن قبل رجل من المُفترض أنّه يترأس دولة تدّعي أنّها زعيمة العالم الحُر، وتتباهى بدُستورها، وتِمثال الحُريّة على أرضها.

إجراء تحقيق دوليّ مُحايد في جريمةٍ كهذه هزّت العالم بأسره لبشاعتها واعتَرفت المملكة العربيّة السعوديّة رسميًّا ودون لفْ أو دوران بأنّ 11 شخصًا تورّطوا في تنفيذها واستخدموا المنشار في تقطيع الجثّة وتسليمها إلى مُتعاونٍ محلّي، خطوة يجب أن تحظى بدعم الجميع وعلى رأسهم الرئيس ترامب، وكُل المسؤولين السعوديين أنفسهم، وهم الذين أيّدوا وموّلوا المحكمة الدوليّة لكشف الحقائق حول مقتل الراحل رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان، وتقديم كُل المُشاركين فيها إلى العدالة.

وجود رئيس مِثل ترامب في البيت الأبيض، وصمة عار لأمريكا ولكُل اللّذين انتخبوه، خاصّةً أنّه يُهدّد أمن العالم واستقراره بحُروبه الاقتصاديّة والعسكريّة في سورية وليبيا وأفغانستان وربّما قريبًا جدًّا ضِد إيران.

لا نستبعِد أن يكون ترامب الذي يضع الجشع المالي على قمّة أولويّاته أرسل وزير خارجيّته مايك بومبيو أمس إلى الرياض وأبو ظبي من أجل ابتِزاز حُكومتيهِما ماليًّا، ونهب ما تبقّى من مِلياراتٍ في خزائنهما لتغطية نفَقات حُروبه القادمة التي قد تصِل إلى عشرة تريليونات إذا ما اشتعل فتيلها، ورهن احتِياطات الدّولتين النفطيّة لعُقودٍ قادمةٍ.

في ظِل هذه الشّراهة والجَشَع للمال لدَى الرئيس ترامب، علينا أن نتخيّل لو استخدمت القِيادة السعوديّة أموالها وصفقات أسلحتها هذه لتطبيق مُبادرتها للسّلام لحل الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، وتحرير المُقدّسات العربيّة والإسلاميّة في الأراضي المُحتلّة، وخدمة القضايا العربيّة الأخرى العادلة، أو في مشاريع تنمية تُوفّر فُرص العمل لعشرات الملايين من الشّباب العربيّ العاطِل، بدلًا من الرّهان على رئيسٍ لا يوجد مكان للقِيَم والأخلاق في قاموسه، ولا يكُن إلا العداء للعرب والمُسلمين من مُنطلقاتٍ عُنصريّةٍ وعقائديّةٍ.