مقالات مشابهة

الأضحى والابتلاء الإبراهيمي.. ما لم تعرفه من قبل عن الحج!

المشهد اليمني الأول/

إنَّ قضية عيد الأضحى ترتبط بالحوار الذي جرى بين الله تعالى وملائكته: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.

• فالملائكة بسبب علم خاص أطلعه الله تعالى عليه.
• أو بسبب معلومات حلّلتها، وهي حول قوى الإنسان الأربع: الشهوة والغضب والوهم التي قد تدفعه نحو الافساد وسفك الدماء وقوة العقل التي تدعوه إلى الخير.
وحينما تتغلب القوى الثلاث على العقل تكون النتيجة صراعاً بين الناس وإفساداً في الأرض وسفكاً للدماء.
• أو بسبب تجربة اختيارية سابقة كان الافساد والسفك نتيجتها.

لأحد هذه الأسباب سألت الملائكة بصورة اعتراض “قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ”.

والله تعالى لم يُجب الملائكة بأن ذلك لن يحدث، بل أجابهم بعرض مشكلة في نظرة الملائكة، فإنَّهم كانوا ينظرون إلى جزء من لوحة الإنسان، ولم يعلموا بكلِّ اللوحة، فأراد الله تعالى أن يظهر الجزء الآخر من اللوحة الإنسانية، وهو الجزء المشرق المثير، لذا كان جواب الله المبدئي “إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.

وأتبعه بإجراء تمهيدي “وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”.

التفت الملائكة إلى نقصهم المعرفي وإلى الكمال الإلهي المطلق فقالت: “سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا”. ترى من هم هؤلاء الأسماء الذين يمثّلون الصفحات المضيئة المشرقة المنيرة المشعّة من مستقبل البشرية؟

قال تعالى: “يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ”.

فإذا بآدم ينطق بأسماء حجج الله في أرضه فكان أول اسم أنبأ به اسم سيد بني آدم “محمد بن عبد الله” وعقبّه بأسماء بأهل بيته وأسماء الأنبياء وكان على رأسهم “ابراهيم” أبو الأنبياء وبطل عيد الأضحى.

ونزل آدم (عليه السلام) إلى الأرض ليرشده جبرئيل –كما ورد في بعض الروايات- إلى موقع الكعبة التي دحا الله الأرض من تحتها ليبني الكعبة أول بناء إنساني.

وتمرّ الأيام ويرسل الله تعالى خليله ابراهيم (عليه السلام) رسولاً إلى الناس في وسط مجتمع وثني لا يُعبد الله فيه.

برز في مسيرة ابراهيم (عليه السلام) منهجه العقلي، فهو أراد أن يزعزع عقيدة قومه المنحرفة عبر تساؤلات نقلتهم من الأرض إلى السماء بهدف نقلهم إلى ربّ الأرض والسماء.

“فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين”.

وقد برز هذا المنهج العقلي الذي أراد ابراهيم (عليه السلام) من خلاله أن يغلق أيّ ثغرة في البناء العقائدي الإنساني.

“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.

أخذ –كما ورد في بعض الروايات- طاووساً ونسراً وديكاً وبطّاً وخلط لحومهنّ وعظامهن ونشرها على عشرة جبال، ودعاها أن تأتي إليه بإذن الله تعالى، فإذا باللحوم والعظام تلتحم لتعود الطيور كما كانت، وتأتي سعياً بين يدي ابراهيم (عليه السلام).

وإضافة إلى ظهور العقل الابراهيمي ظهرت في مسيرته ميزة العاطفة التي بانت بشكل لافت في حوار ابراهيم (عليه السلام) مع ملائكة الله الذين آتوا إليه ليخبروه بأنَّ الله تعالى أرسلهم لإنزال العذاب على قوم لوط الفاسدين، فإذا بابراهيم (عليه السلام) يجادل ملائكة الله في تعذيبهم أولئك القوم رأفةً وحلماً وتحنّناً منه عليهم، وقد وصف القرآن الكريم ابراهيم في هذه الواقعة بقوله: “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ”، أراد الله تعالى أن يبتلي ابراهيم (عليه السلام) ببلاءات شديدة يظهر من خلاله جوهره الإنساني.

إن الله تعالى قد ابتلاه بتلك النار العظيمة حينما وضعه المشركون في منجنيق ورموه فيها. قال الإمام الصادق (عليه السلام) فيما ورد عنه: “ولما القي إبراهيم عليه السلام في النار تلقَّاه جبرئيل عليه السلام في الهواء، وهو يهوي إلى النار، فقال: يا إبراهيم لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وقال: يا الله يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد نجِّني من النار برحمتك، فأوحى الله تعالى إلى النار ” كوني بردا وسلاما على إبراهيم”.

ولكن هذه المرة أراد الله تعالى أن يبتليه ببلاء عظيم يتعلّق بعقله وقلبه.
في هذا البلاء كان عمر ابراهيم (عليه السلام) 120 عاماً، وعمر زوجته هاجر 90 عاماً، فإذا بالله تعالى في معجزة إلهية يرزقه منها بولد سمّاه اسماعيل الذي تعلّق قلبه به أشدّ تعلّق.

أراد الله أن يختبره، فأمره أن يذهب به مع أمّه في رحلة كانت نهايتها في وادٍ سوَّدت الشمس جباله الصخرية المحيطة به، وهو وادٍ غير ذي زرع، غير ذي ماء، لا أحد من الناس فيه مع ذلك كلّه أمر الله تعالى ابراهيم (عليه السلام) أن يترك فيه اسماعيل (عليه السلام) وأمّه هاجر ويعود إلى موطنه.

ابراهيم صاحب العقل الكبير والقلب العظيم لم يسأل، قالت له هاجر: إلى من تكلنا؟ فقال (عليه السلام): أكِلُكم إلى الله تعالى.

وعطش اسماعيل ولم يكن في المكان ماء، فصعدت هاجر إلى الصفا تنادي: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فذهبت إلى المروة تنادي: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، حتى فعلت ذلك سبعة ولم يجبها أحد من الناس، لأنه لم يسمعها أحد منهم، ولكن الله تعالى كان يسمعها، وأجابها، لكن لا بلفظ خلقه، بل بماء فجّره تحت قدمي اسماعيل فكان ماء زمزم، وهي خير ماء على وجه الأرض.

وأتت الطيور إلى الماء، ولاحظت العرب مسار الطيور، فأتت تستوطن الوادي الذي باركه الله وآوى إليه الناس.

وكبر اسماعيل بين العرب، وأبوه ابراهيم (عليه السلام) يدعوه قلبه الكبير كلّ مدّة لزيارة حبيبه وفلذة كبده اسماعيل، وكان كلما زاره، تعلّق به قلبه أكثر، وكيف لا يكون ذلك وقد ورد أنّه كان يظهر من جبين اسماعيل نور خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله).

وجاء وقت الاختبار العظيم حينما أمر الله نبيّه ابراهيم (عليه السلام) أن يرفع قواعد البيت مع ولده اسماعيل “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”، وأراد الله تعالى أن يبتلي العائلة الابراهيمية فأمره الله أن يبدأ مع هاجر واسماعيل رحلة الحجّ. المقصد الأول عرفة التي ورد أنّها سميّت عرفة من المعرفة، وهي معرفة الله تعالى معرفة يرى الإنسان من خلالها الله تعالى قبل كلّ شيء، فيعرف الأشياء بالله بدل أن يعرف الله بالأشياء “متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدّل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيبا”.

إنّها المعرفة التي يقدِّم الإنسان فيها الله على كلّ شيء حتى لو كان اسماعيل (عليه السلام).

وبعد مغرب الشمس أمرهم الله أن يزدلفوا إلى وادي “المشعر” الذي سميّ بالمشعر من الشعور وهو فعل القلب، إذ أراد الله تعالى في هذا الوادي للقلب أن يقدِّم الله على كلِّ شيء، وأن لا يتعلّق فيه حبّ وعشق لغير الله يكون عقبةً أمام حبِّ الله.

في المشعر وبعد أن امتلأ عقل إبراهيم (عليه السلام) معرفة بالله وقلبه حبّاً به جاء الوحي في المنام يأمره بذبح ولده وحبيبه وقرّة عينه اسماعيل (عليه السلام).

ابراهيم (عليه السلام) لم يسأل، بل قال لولده بكلّ صراحة “إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ”، وإذا بولده المؤمن التقي البار الوفيّ يجيبه: “يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”.

أمر ابراهيم (عليه السلام) زوجته هاجر أن تذهب إلى مكّة لتطوف حول البيت العتيق، لعلّ ذلك حتّى لا ترى موقف الذبح المقدَّس فترقَّ لذلك.

وسار الأب مع ولده نحو المذبح المقدَّس في منى وحاول إبليس أن يقف عقبة أمام العائلة، فرماه ابراهيم (عليه السلام) بسبع حصات، ورماه إسماعيل بسبع حصات، فلحق ابليس بهاجر في جوار الكعبة وقال لها: “يا أمة الله من هذا الشيخ الذي رأيته في موضع كذا وصفتُه كذا وكذا؟
قالت: ذاك بعلي.
قال اللعين: فرأيت معه وصيفاً ـ أي خادماً ـ صفته كذا وكذا.
قالت: ذاك ابني.
قال: فإنّي رأيته وقد أضجعه وأخذ المدية ليذبحه.
قالت: كذبت أيها الرجل، إنّ إبراهيم أرحم الناس، فكيف بابنه يذبحه؟!
قال اللعين: فوربِّ السماء والأرض وربّ هذا البيت لقد رأيته أضجعه وأخذ المدية ليذبحه.
قالت: ولِمَ؟ قال: زعم أنّ ربّه أمره بذلك.
قالت: فحقٌّ له أن يطيع ربَّه. فكانت التضحية تضحية عائلة، أب وابن وأمّ.

وفي المذبح المقدَّس أخذ ابراهيم (عليه السلام) المدية وقال لولده: “نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله”، ثم فرش له عند تلك الجمرة، ووضع المدية على رقبته.

هنا قد يقول قائل: إنّ ابراهيم (عليه السلام) بمعرفته بربّه يعلم أنّه لن يصل به إلى مرحلة الذبح الكامل، لذا أكمل المسير وفي آخر لحظاته نودي: قف يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا، ولكن واقع قصّة الفداء لم يكن كذلك، بل ورد أنَّ ابراهيم (عليه السلام) جرَّ المديّة على رقبته، وفيما هو يجرّها أمر الله جبرئيل، فقلب المدية على قفاها، عندها نودي من ميسرة مسجد الخيف: “أن يا ابراهيم قد صدَّقت الرؤيا.”

عندها استحق ابراهيم (عليه السلام) أن يكون في موقع مباهاة الله لملائكته: يا ملائكتي عندما أخبرتكم عن مشروع الإنسان سألتم في صورة اعتراض، انظروا إلى ابراهيم أمرته بذبح ولده، وفلذة كبده فهمَّ بذبحه ولم يسأل، لذا كان ابراهيم أفضل من ملائكة الله.

واستحق ابراهيم (عليه السلام) أن يصعد على تلك الصخرة ليؤذِّن في الناس بالحجّ وهاهم الملايين كلّ عام يلبّون دعوة ابراهيم (عليه السلام) في رحلة العشق الإلهي يتعلّمون فيه كيف يمتثلون أمر الله ولو على ذبح إسماعيلهم فيكون الله تعالى في عقولهم وقلوبهم هو الأول لا شريك له.
“إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سماحة الشيخ د. أكرم بركات