المشهد اليمني الأول/

تقترب الإمبراطورية الأمريكية من نقطة الانهيار نتيجة حروبها التي لا تنتهي واستعانتها بمصادر خارجية ونشرها الجنود الأمريكيين في أماكن بعيدة لممارسة دور الشرطي في جميع أنحاء العالم. وفي الواقع، فقد أصبحت الحرب مشروعاً ضخماً لكسب المال، وأمريكا، بإمبراطوريتها العسكرية الشاسعة وعلاقتها المشبوهة مع مجموعة من مقاولي الحرب الدوليين، هي واحد من أكبر المشترين والبائعين في ذلك المشروع، حتى إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه أي من أسلافه ليكون بمثابة مندوب مبيعات لصناعة الحرب الأمريكية، وذلك وفقاً لما ذكرته وكالة «رويترز»، التي أكدت أنه تحت رئاسة ترامب، يقوم الجيش الأمريكي بإلقاء قنبلة كل 12 دقيقة!

وفي الآونة الأخيرة، أبدت إدارة ترامب استعدادها لوضع حياة القوات الأمريكية على المحك تحت ذريعة «حماية الموارد النفطية» في السعودية، إذ سينضم نحو 200 جندي أمريكي إلى 500 جندي آخرين متمركزين بالفعل هناك، إضافة إلى 60 ألف جندي أمريكي تم نشرهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط منذ عقود.

ما يثير التساؤل هو أن الولايات المتحدة هي الآن أكبر منتج للنفط في العالم، واعتمادها على الواردات السعودية انخفض بشكل كبير بنحو 50% في العامين الماضيين وفقاً لـ«واشنطن بوست»، ومن ثم: إذا لم تكن واشنطن «تحمي» النفط من أجل الأمريكيين، فما هي المصالح التي تحميها؟

إن المجمع الصناعي العسكري هو المسيطر، وبالطبع، الربح هو هدفه الأساس، والمجمع الصناعي العسكري هو أيضاً المشغِّل الأكبر في العالم.

لطالما كان لدى أميركا ميل إلى حروب مستمرة تُفرغ خزائنها الوطنية بينما تغذي تلك الموجودة في المجمع الصناعي العسكري، وبمساعدة وتحريض من الحكومة الأمريكية، أقام المجمع الصناعي العسكري الأمريكي إمبراطورية لا مثيل لها في التاريخ بوسعها وامتدادها، وهي مكرسة لشن حروب دائمة في جميع أنحاء العالم.

وعلى الرغم من أن الأمريكيين لا يشكلون سوى 5٪ من سكان العالم، فإن أمريكا تنفق متفاخرة ما يقرب من 50٪ من إجمالي الإنفاق العسكري في العالم، وهي تنفق على الجيش أكثر مما تنفقه أكبر 19 دولة مجتمعة، والحقيقة أن «البنتاغون» ينفق على الحرب أكثر مما تنفقه الولايات الخمسون مجتمعة على الصحة والتعليم والرفاهية والسلامة، وكل ذلك على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين.

وبعد أن تمت السيطرة عليها من قِبل مقاولي الحرب الجشعين والسياسيين الفاسدين والمسؤولين الحكوميين غير الأكفياء، فإن الإمبراطورية العسكرية الأمريكية المتسعة تستنزف أموال البلاد بمعدل يزيد على 32 مليون دولار في الساعة. وفي الواقع، تنفق الحكومة الأمريكية على قواتها في العراق كل خمس ثوان أكثر مما يحصل عليه المواطن الأمريكي العادي في عام واحد.

وبوجود أكثر من 800 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة في 80 دولة، تعمل الولايات المتحدة الآن في نحو 40% من دول العالم بتكلفة تتراوح بين 160 و200 مليار دولار سنوياً. ومع إن الكونغرس لم يعلن عن الحرب رسمياً إلا إحدى عشرة مرة في تاريخ البلاد، وآخر مرة كانت خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الولايات المتحدة في حالة حرب طوال الـ243 عاماً الماضية باستثناء 21 عاماً منها.

إن خوض ما يسمى «الحرب على الإرهاب» كلف دافع الضرائب الأمريكي أكثر من 4.7 تريليونات دولار منذ عام 2001، إضافة إلى 127 مليار دولار أنفقت في السنوات الـ17 الماضية لتدريب رجال الشرطة والجيش ودوريات الحدود في العديد من البلدان وتطوير ما يسمى برامج التثقيف في مجال مكافحة الإرهاب، وهذا لا يشمل تكلفة التعبئة والحفاظ على القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة حول العالم. ومن المتوقع أن تؤدي تكلفة إدامة تلك الحروب المستمرة والتدريبات العسكرية في جميع أنحاء العالم إلى رفع إجمالي الفاتورة إلى 12 تريليون دولار بحلول عام 2053، بمعنى، إن الحكومة الأمريكية تنفق أموالاً لا تملكها أساساً على إمبراطورية عسكرية لا تستطيع تحمل تكلفتها.

وكما قال الصحفي الاستقصائي أوري فريدمان، منذ أكثر من 15 عاماً، فقد كانت الولايات المتحدة تدعي «تكافح الإرهاب» عبر بطاقة ائتمان، فتقوم بشكل أساس بتمويل الحروب بالدين، في شكل عمليات شراء سندات الخزانة الأمريكية من قبل كيانات تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها مثل صناديق التقاعد وحكومات الولايات والحكومات المحلية، ومن قبل دول مثل اليابان.

لا شك في أن تكلفة الحرب ليست رخيصة، لكن عدم أهلية الحكومة وعمليات الاحتيال وجشع المتعاقدين يجعلها باهظة التكاليف، وفي ذلك كشفت مراجعة حسابية حكومية أن المقاول الحربي لدى «بوينغ» كان يثقل أعباء دافعي الضرائب بشكل كبير مقابل أغراض ثانوية ما أدى إلى زيادة في الإنفاق بملايين الدولارات، وكما لاحظ التقرير، فقد دفع دافع الضرائب الأمريكي، على سبيل المثال، 71 دولاراً مقابل دبوس معدني يكلف 4 سنتات فقط !

لقد أصبح التلاعب بالأسعار شكلاً مقبولاً من أشكال الفساد داخل الإمبراطورية العسكرية الأمريكية، ما يظهر مدى قلة سيطرة الشعب الأمريكي على حكومته الفاسدة، بما فيها وزارة الدفاع ومقاولوها. وترامب، لا يختلف عن سابقيه، فقد واصل توسيع الإمبراطورية العسكرية الأمريكية في الخارج وفي الداخل، داعياً الكونغرس إلى الموافقة على تخصيص مليارات الدولارات الإضافية لتوظيف المزيد من رجال الشرطة وبناء المزيد من السجون ووضع المزيد من برامج الحرب على المخدرات والحرب على الإرهاب والحرب على الجريمة التي تهتم بالمصالح المالية القوية لـ«الدولة العميقة» وتضع الحكومة في براثنها.

وبطبيعة الحال، هذا ليس مجرد سلوك فاسد، إنه سلوك مميت وغير أخلاقي، فمن أجل تمويل هذه الإمبراطورية العسكرية التي تهيمن على معظم العالم، فإن حكومة الولايات المتحدة على استعداد لإفلاس الشعب الأمريكي وتعريضه للخطر والمجازفة بعودة الإرهاب إلى أراضيها ودفع الشعب إلى الانهيار في نهاية المطاف.

وما زاد الطين بلة أن دافعي الضرائب الأمريكيين يضطرون إلى دفع 1.4 مليون دولار في الساعة لتوفير الأسلحة الأمريكية للبلدان التي لا تستطيع تحمل تكاليفها، وبذلك يزداد وضوحاً أن هناك حاجة ماسة إلى إصلاح شامل للأولوية الوطنية الأمريكية، وهنا نتساءل: هل يحتاج الأمريكيون إلى 1,4 مليون من الأفراد العسكريين العاملين و 850 ألف جندي احتياط بينما عدد قوات العدو «داعش» -على فرض أنه فعلاً عدوها- تصل في الوقت الحالي إلى عشرات الآلاف؟! إذا كان الأمر كذلك، فيبدو أن هناك شيئاً خاطئاً بشكل جذري في الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية.

عن موقع «غلوبال ريسيرش»