مقالات مشابهة

في الذكرى الـ 66 لثورة الجزائر.. الأحفاد على طريق الأجداد

المشهد اليمني الأول/

اليوم، تحل ذكرى ثورة الفاتح من تشرين الثاني عام 1954 التي هي لحظة انطلاق الثورة التحريرية الجزائرية، فإن الكتابة عنها تظل ساخنة، صادقة، وبنفس ملحمي يمكن للكاتب أن يسترجع تلك الأحداث الكبرى التي استمرت سنيناً، واتخذت أشكالا مختلفة إلى أن تم إنجاز الاستقلال. اليوم تتمتع الجزائر بتلك الاستقلالية لكنها لم تدر ظهرها إلى ماضيها الذي كان… لا تنسى شهداءها… فقد شكل انتصار الجزائر بوصلة للأجيال التي ترفض أن يكون الدولار دليلها،

والذل المصبوغ بالنفط وسيلة عيشها، فقد أبدع الشعب العربي الجزائري أسطورته الفريدة في تحشيد الجماهير، وزجها في معركة التحرير في مواجهة الاستعمار الفرنسي الغاشم، والذي كان قد انتصر في حربين عالميتين، متقناً قهر الشعوب واستعبادها وإزهاق أرواح شيبها وشبابها وتدمير حضارتها وتراثها، وتدنيس كراماتها، فأهين في الجزائر، وكنس من أرض البطولات في جزائر الرجال بعدما كان يعتبرها (فرنسا ما وراء البحار) على حد زعمه طوال عمره الاستعماري!

وقد تجلت عظمة الثورة الجزائرية في أنها دخلت الوجدان والوعي العربي والعالمي، فاستحقت جدارة التعاطف والتضامن والإسناد بمقدار ما قدمت من جهاد نادر، وعناد صلب، ودماء فضحت الوجه الأبشع للاستعمار الفرنسي ليظهر على حقيقته من التوحش والغطرسة والولوغ في دم الشعوب. وقد استقطبت الثورة وبخاصة في عقدها الأخير آمال وأحلام كل أباة الضيم، والطامحين للتحرير والكرامة.

ولعل أنبل آيات الثورة الجزائرية التي نحتفل بذكراها هذه الأيام، أنها تحولت إلى رمز كفاح وقضية تحرير وطني عالمي بفضل شلالات الدماء التي قدمتها فأصبحت قدوة للشعوب المضطهدة والمغلوبة في القارات الثلاث (أسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية)، والمحفز الأقوى على الثورة في وجه الغزاة والطغاة، لتحقيق النصر وتحرير الأرض والإنسان وسيادة الكلمة والقرار الوطني والقومي للشعوب المغلوبة. فكيف نقرأ هذه المناسبة الوطنية الخالدة؟

لقد عاشت الجزائر في ظل الاستعمار الفرنسي وضعاً صعباً، بسبب سنوات طويلة من سياسات الفرنسة المصحوبة بحملات قمع قاسية أخذت أحياناً شكل حملات الأرض المحروقة التي قادها جنرالات فرنسيون أرادوا خنق إرادة الحرية لشعب الجزائر، وفي واقع الأمر تعايشت على أرض الجزائر مجموعتان سكانيتان متمايزتان يحكمهما حاكم عام يعينه مجلس الوزراء الفرنسي، فتمتع المستوطنون بكل الحقوق السياسية وبالعديد من الامتيازات الاقتصادية والثقافية، في حين عاش الجزائريون (أو مسلمو الجزائر وفق التسمية الفرنسية) ظروفاً صعبة.

ولم يكن الاحتلال الفرنسي للجزائر مجرد إخضاع عسكري ونفوذ سياسي، بل كان ذا أبعاد حضارية وثقافية واسعة، أرادت فرنسا من خلالها طمس الشخصية العربية والإسلامية للجزائر، وجعلها تابعاً ذيلياً يدور في الفلك الفرنسي بلا إرادة ولا انتماء خاص. وإننا نخطئ كثيراً حينما ندرس حروب الفرنجة التي تسميها أوروبا (الحروب الصليبية) في إطار المشرق العربي فحسب، متجاهلين أو متناسين الهجمة الأوروبية في المغرب العربي بدءاً من الحرب الإسبانية ـ العربية التي كانت الوجه الآخر لحروب المشرق الصليبية، ومروراً بكل أشكال الصراع المرير بين أوروبا في شمال المتوسط، والعرب جنوب المتوسط وشرقه.

وحينما سقط المعقل العربي الأخير في الأندلس عام 898 هـ ـ 1492م وخرج المسلمون من غرناطة ومن الأندلس، امتدت الملاحقة الأوروبية متمثلة باسبانيا والبرتغال تجتاح الشواطئ المغربية والجزائرية على الأطلسي والمتوسط، وتتجاوزها إلى البحر الأحمر والخليج والمحيط الهندي في موجة عرفت باسم الاستعمار الأوروبي وكشوفه الجغرافية،

ثم دخلت بريطانيا وفرنسا حلبة السباق الاستعماري بشكل طغى على الدور الأسباني والبرتغالي، وتوزعتا مناطق النفوذ في الأقطار العربية والإسلامية وبقية آسيا وأفريقيا وأمريكا. لقد أدرك المستعمرون أن بقاءهم واستمرارهم لا تكفيه القوة العسكرية، وإنما كان لابدّ له من غزو ثقافي وفكري يزلزل الأسس الفكرية التي تقوم عليها شخصية الشعب بشكل يتيح للقوة المستعمرة إذابة تلك الشخصية أو تشويهها.

يقول الكاتب البريطاني ايفنز وهو أستاذ التاريخ في جامعة بورتس سماوس ومتخصص في التاريخ الفرنسي في مؤلفه ”الجزائر حرب فرنسا غير المعلنة” الذي صدر مع نهاية العام 2011 عن منشورات جامعة اكسفورد البريطانية: ان حرب الجزائر تركت جراحاً عميقة في المجتمع الجزائري وآثار ذات دلالة على المجتمع الفرنسي، وقد أدت تلك الحرب إلى عودة مليون ونيف من المستوطنين الفرنسيين إلى بلدهم فرنسا، وهؤلاء هم من تبنى مبادئ اليمين المتطرف الذي يتزعمه اليوم جان ماري لوبين وتستشهد ابنته) (رئيسة هذا الحزب) بطروحات أولئك المستوطنين الفرنسيين الذين كانوا مصاصي دماء الشعب الجزائري وناهبي ثروات أرضه، ويعتمد ايفنز على الأرشيف لتوثيق ما جاء في كتابه هذا.

ففي تلك الحرب غير المعلنة يضيف ايفنز أعمال العنف والتظاهرات التي هزت الشارع الجزائري نهاية الحرب العالمية الثانية بخاصة أحداث أيار 1945 في شرق الجزائر والتي شكلت فاصلا هاماً في تاريخ تلك الحرب حيث اندلعت مواجهات مسلحة ارتكب فيها الفرنسيون مجازر وحشية فظيعة من تقطيع أوصال و نثر أشلاء،

وكانت عصابات المستوطنين الفرنسيين تهاجم منازل الجزائريين تحت جنح الظلام تساعدها في ذلك مرتزقة تم استئجارها لحساب القوات الفرنسية المستعمرة ولم تكن الجزائر بالنسبة لهؤلاء مستعمرة فقط بل كانوا يرونها جزءا لا يتجزأ من الأرض الفرنسية حيث وحدوا البنى الإدارية منذ العام 1880 ولم يكن مطروحاً أبدا انسلاخ الجزائر عن فرنسا، كما أن الشرائع كانت قائمة بين الجزائر وفرنسا بسن قوانين قمعية بامتياز ولم تكن تطبق الا على سكان الجزائر.‏
________
مصطفى قطبي