مقالات مشابهة

البابوية والمرجعية.. وثيقة الأخوة الإنسانية وأفق جديد من التلاقي

اللقاء الّذي يجمع كلاً من البابا فرنسيس والسيد علي السيستاني يكتسب أبعاداً بالغة الأهميّة ومتعدّدة الاتجاهات، تبدأ بعلاقة المؤمنين ببعضهم البعض، ولا تنتهي بالفهم المتجدّد لوحدة الأديان.

قبل عامين، كانت الزيارة الأولى للبابا فرنسيس إلى شبه الجزيرة العربية. زيارةٌ حملت في طياتها معاني مهمة، نظراً إلى توقيتها ومكانها وطبيعة أحداثها. يومها، كانت منطقة الشرق الأوسط تخرج من خضم حربٍ طاحنة مع الإرهاب.

لم تخرج المنطقة نهائياً منها حتى اليوم، لكنَّ مطحنة السنوات الماضية في سهول العراق وسوريا واليمن وجبالها ومدنها، كانت تتراجع في دورانها على رؤوس العباد باسم الدين. وقد طالت هذه المطحنة المسيحيين في هذه البلاد، فهجّرت من استطاعوا أن ينجوا من القتل، وأفرغت سهل نينوى ومدناً وقرى أخرى من سكانها، في حملة تطهير لم تشهدها البلاد في أحلك أيامها.

يومها، وقع البابا في مدينة أبو ظبي وثيقة “أخوة إنسانية ضد التطرف” مع إمام الأزهر الشيخ أحمد الطيب، مع ما يمثله الرجل والمؤسسة التي يؤمها. واليوم، تحمل زيارة الحبر الأعظم للعراق بعداً تاريخياً قيماً.

كما أنَّ لها قيمةً دينية كبيرة، لارتباطها بمصير المسيحيين في العراق وأولئك الذين تم تهجيرهم منه. زيارة البابا فرنسيس وخطابه المهم المنتظر في مدينة أور التاريخية، حيث يقع مقام النبي إبراهيم في محافظة ذي قار (جنوب البلاد)، سيضيفان معاني جديدة إلى لقائه المنتظر يوم السبت في النجف مع المرجع الأعلى للشيعة السيد علي السيستاني، وهي المرة الأولى التي يزور البابا خلالها هذا المكان وهذا المقام.

ويتطلّع البابا إلى أن تفتح الزيارة الحالية ولقاء المرجعية الشيعية أفقاً جديداً من التلاقي مع هذه البيئة ذات الموقع والثقل التاريخيين في العراق والمنطقة، والتي أدت دوراً بارزاً في مكافحة الإرهاب بصورةٍ مباشرة في السنوات الماضية.

وثيقة الأخوة الإنسانية

الأخوة الإنسانية هي عنوان الوثيقة المتوقع إعلانها بعد لقاء البابا والسيد السيستاني، وهي تتمحور حول المزيد من الجهود للحوار والتناغم بين المسيحيين والمسلمين. ورغم أن الزيارة تتوسع لتشمل بغداد، والموصل، ومدينة أور الأثرية، ومنطقة سهل نينوى المحيطة بها، ومدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، فإن قيمتها الأكثر تضمّناً للمعاني تتركز في زيارة النجف واللقاء التاريخي مع السيد السيستاني الذي يرأس الحوزة صاحبة الباع الطويل في الانفتاح على الطوائف،

وهي التي دخلت في حوار بين الأديان في أعقاب الغزو الأميركي في العام 2003، وخلال مرحلة الاقتتال الطائفي في العراق بين العامين 2006 و2008، إذ كانت مواقف السيستاني ترفض الاقتتال بين المسلمين، ثم كانت خطوة المرجعية التي اتخذت فيها القرار الكبير بمواجهة الإرهاب في العام 2014 عندما توسع تنظيم “داعش” حول العاصمة بغداد مهدداً بالدخول إليها.

إن الرسالة البارزة التي تحملها زيارة البابا فرنسيس إلى النجف، تركز على أهمية دور المرجعية في حماية وحدة العراق وحفظ التنوع الديني فيه، وفي القدرة على استعادة المسيحيين تحديداً لدورهم وحضورهم، فضلاً عن مدنهم وقراهم وممتلكاتهم التي هجر منها مئات الآلاف منهم.

إنّ مكانة السيد علي السيستاني لدى عشرات الملايين من الشيعة حول العالم تزيد أهمية اللقاء الذي سيجمعه بالبابا فرنسيس الّذي يرأس الكنيسة الأكبر عند المسيحيين. وإضافة إلى ذلك، وعلى المستوى الأكثر ارتباطاً بالسياسة، فإن البابا يرأس دولة، وهي الفاتيكان، بينما يبرز الدور السياسي للسيستاني كهالةٍ ووهج يوجّهان السياسة من دون أن ينخرطا فيها بصورةٍ مباشرة. وفي الحالتين، فإن لقاء الرجلين يمثل تعبيراً عن لقاءٍ بين مقامين يمتلكان تأثيراً استثنائياً في مجرى السياسة وارتباطاتها الاجتماعية والشعبية، الأمر الذي يكسب اللقاء بينهما أبعاداً جديدة أكثر أهمية.

ولا شكّ في أن الزيارة مهمة في تعزيز الحوار والمشتركات بين الأديان، وسوف تترك انطباعات وآثاراً إيجابية في بلاد الرافدين، التي ما تزال تعاني عدم استقرار أمني وسياسي تام ومكامن قلق كبرى من المستقبل، وهي حتى اليوم لم تتعافَ من سموم الاحتلال التكفيري لمساحات واسعة منها قبل سنوات، على الرغم من استعادتها السيطرة شبه التامة على الجغرافيا.

إنَّ اختيار قداسة البابا للعراق لزيارته الآن يشير إلى أهميته في المنطقة والعالم، إضافة إلى قيمته الحضارية كدولةٍ لها امتداد في تاريخ الأديان، كما في التاريخ السياسي للمنطقة، وأبعد منها. كما أنَّ اهتمامه بالعراق تحديداً يشير إلى الآمال المعقودة عليه للنهوض من جديد وأداء دوره المألوف كدولة مؤثرة وأصيلة.

وتشكّل زيارة النجف أيضاً فرصة لترميم المجتمع العراقي وبلسمة العلاقة بين أديانه، وهو الهدف الذي لطالما أولته مرجعية النجف أهمية قصوى، مثله مثل محاولتها الدائمة للحفاظ على حقوق المسيحيين الذين هجروا من مناطقهم.

الزيارة التي تمثل رحلة البابا فرنسيس الأولى خارج الفاتيكان منذ تفشي وباء كورونا، والأولى في التاريخ لحبر أعظم إلى العراق، توقع الكثيرون تأجيلها، لكونها تمثل مخاطرة مرتبطة بالوباء من جهة (السفير البابوي لدى العراق ميتجا ليسكوفار أصيب بفيروس “كوفيد 19″، وهو من الشخصيات المهمة في التحضير للزيارة)، ومخاطرة أمنية مرتبطة بالتفجيرات التي تشهدها البلاد، وآخرها التفجيران الانتحاريان في ساحة الطيران وسط بغداد في كانون الثاني/يناير الماضي من جهةٍ ثانية. وعلى الرغم من ذلك كله، لم يؤجل الفاتيكان الزيارة، نظراً إلى أهميتها واقتناع البابا بجدوى إتمامها ومعناه.

شخصية البابا الفريدة

لقد تبلورت صورة البابا فرنسيس منذ تسلمه منصبه قبل 8 سنوات، وقبل ذلك أيضاً، منذ ما عرف عن حواراته الشهيرة مع البابا بنديكتوس الرابع عشر، كشخصية بالغة الدفء تجاه الضعفاء، وهو، كما يظهر من مسيرته الممتدة من الأرجنتين في أميركا اللاتينية إلى كرسي الحبر الأعظم في قلب دولة الفاتيكان، وفي قلب روما، صاحب شخصية تفضّل العمل المباشر مع الآخر على الغوص في جدالاتٍ فلسفية لا طائل منها. وقد ترجم ذلك في إدارته للفاتيكان وللكنيسة الكاثوليكية، إذ تجاوز حدود الجنسية أو اللغة أو العرق في أدائه ومباركته وزياراته.

لقد تحولت الكنيسة معه إلى كنيسة نشطة تدير استراتيجية تواصل فاعلة مع أطرافها حول العالم، ومع الآخر المتمثل بالأديان والعقائد المختلفة عنها، فضلاً عن رعايتها شؤون المسيحيين حيثما يواجهون تحديات ومخاطر وأحداثاً مقلقة.

إنّ قدوم البابا إلى العراق بناءً على دعوة تلقاها سابقاً من الرئيس برهم صالح، يعبر عن رغبة بابوية قديمة تعود إلى زمن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي أراد زيارة مدينة النبي إبراهيم، لكن ظروف العراق، في ظلّ حكم صدام حسين، لم تكن تساعد على إتمام تلك الزيارة.

وفي العراق، تعدّ الطوائف المسيحية من كلدان وآشوريين وسريان وغيرهم من أقدم الطوائف المسيحية في الشرق والعالم على الإطلاق. ورغم أنّ جذورها ضاربة في تاريخ العراق منذ القرن الأول، فإنّها عانت الاضطهاد لفترات طويلة، ما أدّى إلى هجرة مسيحيين كثر من قراهم. وبلغت تلك الهجرة ذروتها بعد غزو العراق في العام 2003، واشتدت بعد صعود تنظيم “داعش”، الأمر الذي يكسب زيارة بابا الفاتيكان إلى العراق بعداً معنوياً مرتبطاً بدعم المكونات التي تكافح في ظلّ عالم يشهد موجات شديدة التطرف.

إنّها زيارة تريد في جانبها السّياسيّ أن تقول إنَّ المسيحيين يمثلون جزءاً من نسيج مجتمعاتهم، وإن الكنيسة تريدهم أن يبقوا في أرضهم، وأن تعزز علاقاتهم مع الأطراف الأخرى المكونة لهذا المجتمعات، وهو ما تقوله زيارة البابا لهم، وأن تفتح لهم باب حوار ولقاء مع شركائهم في الوطن، مستخدمة بذلك وزنها الاعتباري والديني والسياسي، لتعزز مكانتهم في دولهم، وهو ما يتم التعبير عنه من خلال الجهود الكبيرة التي تبذل لإعادة المسيحيين إلى الموصل وبغداد وسهل نينوى، وإعادة بناء ممتلكاتهم وكنائسهم فيها.

“جميعنا إخوة”

لقد اختار البابا عنواناً لزيارته من إنجيل “متى”، يقول فيه: “أنتم جميعكم إخوة”، وهو في مقاربته الفلسفية لمسألة الأخوة يطرح المساعدة المتبادلة بين الدول كخيارٍ يحقق مصلحة الجميع، مثمناً تأسيس التقدم على قاعدة الأصالة التي تجمع الإنسانية جمعاء، وتنمية الوعي بأننا اليوم “إمّا أن نخلص جميعاً وإما لا يخلص أحد”، وفي ذلك تطور جميل للخطاب الكنسي تجاه الآخرين.

إن إقدام البابا فرنسيس على وطء أرض العراق لا بدّ لها من أن تفيد البلد في إعادة تقديم صورته للعالم، باعتباره أرض الحضارات الغنية التي لا تتوقف عن الحياة، على الرغم من وقوعه مرة بعد أخرى في براثن الأطماع الخارجية التي تستهدفه مرةً بالاحتلال المباشر، ومراراً بالإرهاب أو الحصار أو الاستهداف غير المباشر.

ويعيد البابا في زيارته إلى أرض العراق التذكير بمكانتها الرمزية في معتقدات أتباع الديانات السماوية كافة، وهي الأرض التي انطلقت منها الديانات الإبراهيمية. كما يسود الاعتقاد لدى أتباع هذه الديانات بأنّها كانت مهداً في الأساس لخلق آدم وحواء. كذلك، يُجمع اليهود والمسيحيون والمسلمون على الاعتقاد بقصَّة برج بابل، وببشارة النبي يونس أو يونان إلى أهل نينوى، وقبل هذا وذاك، ميلاد النبي إبراهيم في سهل أور الذي يزوره البابا.

ويبحث البابا فرنسيس اليوم عن جمع أبناء العراق حول زيارته، وجمعهم من خلالها حول بعضهم البعض، مستنداً إلى سماحة النهج الذي تنتهجه المرجعية في النجف تجاه المكونات العراقية، وفهمها الديني المنفتح على الآخر المتمايز دينياً والمتلاحم وطنياً وجغرافياً. إنها مناسبة لقاء مقامات وحضارات وعقائد ضاربة في التاريخ، لكنها أيضاً مناسبة أمل بمستقبل تتطلّع إليه شعوب المنطقة، وفي طليعتها الشّعب العراق، ومناسبة لانتشار فهم جديد لوحدة الأديان السماوية في مضامينها العميقة تمثله البابوية والمرجعية.

المصدرالميادين