مقالات مشابهة

حلف القدس وسرّ الانتصارات.. كيف واجه العالم؟

ها هم اليوم، أطراف “حلف القدس”، كلٌ من موقعه، يشكلون أرقاماً صعبة في المعادلات الإقليمية والدولية.

هو مسار من المواجهة الشرسة. لم يكن يوماً سهلاً أو يسيراً. دائماً ما كان صعباً وخطراً وحساساً؛ فالعدو لا ينحصر بالكيان الصهيوني الذي احتلّ الأرض واغتصب المقدسات، بل هو تحالف عريض وواسع، يمتدّ ويتجذّر في الإقليم والمنطقة والغرب.

يملك أطرافه كل ما تحتاجه السيطرة والهيمنة، وكل ما يساعد في فرض النفوذ من مقدرات وإمكانيات، ومن أموال وسلاح وتقنيات وإعلام ودعاية ومؤسسات دولية مطواعة وموجهة. أن يربح هذا التحالف (المعادي)، فهذا منطقي وطبيعي، ولكن أن يُهزم، فقد يكون ذلك من سابع المستحيلات. في الأساس، من النادر جداً أن تجد طرفاً أو جهةً أو مكوناً يتجرأ ويفكّر في مواجهة هذا الأخطبوط المنتشر في المنطقة والعالم.

صحيح أنَّ هذا المسار من المواجهة الشرسة، والذي يديره محور المقاومة؛ مقاومة “إسرائيل” وحلفائها، يملك المشروعية القانونية استناداً إلى كل الشرائع والمواثيق، فهو يقاوم دفاعاً عن حقّه الثابت تاريخياً وجغرافياً في أرضه ومقدساته، بمواجهة عدو مغتصب تجاوز في احتلاله كل القوانين والأعراف الدولية، والتي من المفترض أن جميع المؤسسات الدولية نشأت على أساسها وفي سبيل حمايتها وصيانتها، ولكن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق العدالة وإعطاء الحقوق لأصحابها، فكانت المواجهة المفتوحة ضد العدو مفروضة، وكان الحلف الذي حضن هذه المعركة الوجودية وأدارها هو “حلف القدس”.

بوصلة هذا الحلف كانت واضحة دائماً ومعلنة، هي استرجاع القدس وما تمثل من رمز تاريخي وديني. وحيث تمثل “القدس” نواة الحق الفلسطيني العربي والإسلامي والمسيحي الضائع والمسلوب، امتدّ هذا الحلف وتوسع، ليحضن كل الأطراف التي آمنت بهذا الحق، والتزمت بالعمل على استرجاعه، من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان إلى فلسطين المحتلة الجريحة.

كانت إيران، بما تمثّله من موقع وما تملكه من قدرات، نقطة ارتكاز هذا الحلف- المحور، الذي يحتاج إلى قائد متمكن يملك من القدرات ما يساعد على تأمين الحد الأدنى من أسس المواجهة الصعبة وعناصرها، ومن الالتزام ما يحصن الموقف والموقع بمواجهة الضغوط والإغراءات الدولية الضخمة. وفي الوقت الذي تعهَّدت (إيران) بقيادة هذا الحلف ورعايته، وكانت وفيَّة لأطرافه وأهدافهم والتزاماتهم وتضحياتهم، وكانت خير من رعى وقاد هذه المواجهة العالمية، أعطت قضية القدس كامل اهتمامها وتركيزها وإمكانيّاتها، من خلال أغلب مؤسَّساتها المدنية والعسكرية بشكل عام، وعبر “قوّة القدس” التابعة لحرس الثورة بشكل خاص، والتي أدت دور رأس السهم تحت قيادة الشهيد الحاج قاسم سليماني، في إدارة هدف المحور الرئيس وتوجيهه ورعايته، وهو تحرير القدس وفلسطين المحتلّة وما تمثلّه من مقدّسات وحقوق ورمزيّة.

من هنا، تم استهداف إيران بشراسة، في نظامها واقتصادها، وفي أمنها الاجتماعي والسياسي، وفي نفطها وثرواتها، وفي حقوق أبنائها، فقاومت ودافعت وصمدت، وواجهت بثبات وحكمة كلّ أطراف الحلف الأميركي- الصهيوني المعادي، عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً، وقاومت أيضاً كل محاولات التهديد والوعيد، لفك ارتباطها والتنازل عن رعاية هذا المحور وقيادته. وها هي اليوم تقف منتصرة عزيزة كريمة، بعد أن اقتنع أغلب أطراف العدوان الذي شنّ عليها الحرب واستهدفها باستحالة رضوخها أو بصعوبة تراجعها قيد أنملة عن موقفها الصلب وعن موقعها الرائد بمواجهة الظلم والعدوان.

نجاح هذا الحلف (حلف القدس) وانتصاره، لم يكن سببه ثبات إيران وصمودها وموقفها فحسب، بل كان من أهم أسباب نجاحه أيضاً، أنَّ أطرافه الآخرين (خارج إيران) أظهروا من الصلابة والقوة والالتزام ما كان كافياً لتقوية موقع كل طرف منهم أولاً، وما كان أيضاً كافياً لتقوية موقع الحلف مجتمعاً. وها هم اليوم، أطراف “حلف القدس – محور المقاومة”، كلٌ من موقعه، بما يمثلونه منفردين، مع المحور، يشكلون أرقاماً صعبة في المعادلات الإقليمية والدولية.

في العراق، كان هناك قرار عالمي رعاه الأميركيون ونفَّذوه، وبوحداتهم مباشرة، ولم يعتمدوا على الوكلاء مثل أغلب تدخلاتهم حول العالم، بسبب حساسية وأهمية أن يمتلكوا مباشرة نقطة ارتكاز في المنطقة انطلاقاً من العراق. وحيث كان كل شيء يسير على ما يرام لناحية تمدد “داعش” وانتشاره، والذي سيطر بسحر ساحر (أي بدعم الأميركيين) على القسم الأكبر من العراق، وأرعب الجميع، حتى بدا الموضوع منتهياً، وبدأ كثيرون يتحضرون للتسليم بدولة البغدادي (ربيب الأميركيين وصنيعتهم)، ظهر الحشد الشعبي بفتوى حاسمة من المرجعية الدينية (الشيعية)، وانطلق يدافع ويقاتل باللحم الحي.

وبفضل شهدائه، ثبّت المدن والمناطق أمام زحف التنظيم، وبدعم مباشر من قائد “قوة القدس” في حرس الثورة الإيراني الشهيد قاسم سليماني، بدأ يحرر المناطق تباعاً، لوحده أحياناً، وكان داعماً رئيساً للجيش العراقي أحياناً أخرى.

في سوريا، وبإدارته فصائل محور المقاومة التي ساندت الدولة والشعب والجيش، كان دور قائد “قوة القدس” (الشهيد سليماني) حاسماً على الأرض في تغيير المعادلة، بتشكيل جبهة تدخل مباشر، شكلت نقطة ارتكاز قوية، وكانت أساسية في دعم الجيش العربي السوري وتثبيته، والذي انتصر بمواجهة الحرب الكونية التي شُنّت على سوريا.

في لبنان، كان لـ”قوة القدس” وقائدها الشهيد أيضاً دورٌ مباشرٌ في مواجهة العدو الإسرائيليّ، وفي دعم هيكلية المقاومة العسكرية ورعايتها وتنظيمها، خلال مسار المقاومة قبل التحرير، ولاحقاً في جميع المواجهات ضد هذا العدو، وخصوصاً في حرب تموز/يوليو 2006، والتي كتب فيها شهداء “حزب الله” بالدم أول هزيمة كبرى لـ”الجيش” الذي كان لا يُقهر.

في فلسطين، ربما كان خافياً إلى حد ما، أو غير واضح، أو مكشوفاً، الدور الذي أداه الحاج قاسم سليماني في مساندة المقاومة الفلسطينية في غزة ودعمها بالمال والسلاح والخبرات القتالية، خلال مسار طويل من المواجهة، لتنكشف أهمية هذا الدور وحساسيته بعد معركة “سيف القدس”، التي أذلَّت العدو الإسرائيلي بكل ما للكلمة من معنى، وأظهرت بصمات الحاج قاسم بكل وضوح في مناورة أبطال المقاومة الفلسطينية في سلاحي المواجهة الرئيسيين: الأنفاق والصواريخ… لتضاف مناورة صادمة أخرى إلى مناورات مواجهة الصهاينة والأميركيين.

في اليمن، ربما لم يشهد الميدان حضوراً مباشراً لقائد “قوة القدس” الشهيد سليماني. هذا الموضوع ما زال غير واضح، ولكن من خلال متابعة مسار تطور معركة “أنصار الله” في مواجهة تحالف العدوان، لا يمكن إغفال بصمات مدرسة الشهيد في القتال والحرب في هذا التطور، بعد أن أدخل أبطال اليمن (“أنصار الله” والجيش اليمني واللجان) مدرسة جديدة وغريبة في القتال والمعارك والحروب قد لا تتكرّر في التاريخ.

وأخيراً، ربما تكاملت وتواكبت كل العناصر والظروف المناسبة حتى يحقّق جميع أطراف محور المقاومة أو حلف القدس الانتصارات غير المنتظرة أو غير المتوقعة، وفي جميع المنازلات التي خاضوها بمواجهة من يتفوق عليهم بأشواط بالإمكانيات وبالقدرات.

ربما كان الدور الفاصل والمهم للدعم والرعاية الإيرانية المفتوحة بالمال والسلاح والموقف الدبلوماسي والسياسي المساند بالكامل أساسياً في تحقيق هذه الانتصارات، ولكن يبقى هناك سرٌ جمعها كلها. قد يكون اسم الحلف “القدس”، بما يحمله من رمزية وإيمان والتزام بالقيم وبالمقدسات، هو سرّ هذه الانتصارات.

_________

شارل أبي نادر