مقالات مشابهة

حملة أبرهة.. بين الروايات الشفهية والحقائق المخفية

من ضمن الأسباب إلى جانب السبب الديني الذي جاء في مرويات المصادر التاريخية العربية لغزو أبرهة لمكة اسباب اقتصادية فلقد امتازت مكة بوجود الكعبة المشرفة فيها.

وهي قبلة العرب ومزارهم منذ أقدم العصور قال تعالى: (فاجعل افئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، فموقع مكة من المواقع الحساسة الرابطة بطرق المواصلات من شمال الجزيرة وجنوبها مما أهلها لأن تكون مركزاً تجارياً ومالياً متميزاً بين سائر مدن الحجاز خلال القرن السادس الميلادي.

دافع اقتصادي

فكانت مكة ترتبط بمعاهدات تجارية اقتصادية مع الروم ومملكة الحبشة واليمن والعراق قبل حملة أبرهة ومن ابرم تلك المعاهدات التجارية (الإيلاف) هو هشام بن عبد مناف واخوته حيث أشار أبن حبيب البغدادي في كتابه (المنمق في أخبار قريش (أن قريشا كانت تجارا وكانت تجاراتهم لا تعدو مكة إنما يتقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ثم يبتاعونه بينهم ويبيعون من حولهم من العرب فكانت تجارتهم كذلك حتى ركب هشام بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر).

حيث عقد معاهدة تجارية مع بلاد الشام اتباع الروم في حين عقد معاهدة تجارية مع اليمن المطلب ووثق علاقته بملوك اليمن وزارها اكثر من مرة، كذلك سار نوفل الى العراق لعقد معاهدة تجارية مع ملوكها وايضا اتجه عبد شمس إلى الحبشة وأخذ عهد لقريش فعزم أبرهة على منافسة مكة اقتصاديا من خلال السيطرة عليها ليتمكن من السيطرة على طرق التجارة بشكل عام من جنوب الجزيرة حتى بلاد الشام عبر الاتصال بملوك الغساسنة حلفاء بيزنطة.

وحين البحث والتمحيص لهذه الأسباب التي اعتمد عليها المؤرخون ندرك خلاف ذلك من حيث:-

لم تصل الينا عن هذه الحملة نقوش يمنية مباشرة وصريحة تؤكد أن السبب الاقتصادي كان هو أحد الدوافع لحملة أبرهة لغزو مكة. اعتمد المؤرخون على روايات الإخباريين التي تناقلوها عن طريق الرواية الشفهية المتناقضة مما جعلها تفتقد إلى الدقة الواجب توافرها في الخبر التاريخي.

اعتمد التفكير الاستدلالي بأن الدوافع لهذه الحملة هو دافع سياسي اقتصادي اتخذ مظهرا دينيا وبما أن مكة مركز تجاري وتتميز بموقع استراتيجي على طرق التجارة بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها إذ كانت حملة أبرهة السيطرة عليها لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية ومثل هذه الاستدلالات التي لا تكلف صاحبها عناء البحث والتمحيص والتدقيق والنقد والتحليل وربط الاحداث مع بعضها ووضع الفرضيات والقراءة المتعمقة للأحداث.

ولتوفير الوقت والجهد اعتمد على التفكير الاستدلالي دون الاخذ بالمنهج التاريخي كل ذلك قاد إلى نتائج ابتعدت عن معرفة الحقيقة التاريخية والسبب المباشر والحقيقي والخفي لغزو ابرهة لمكة.

لا توجد سجلات مكتوبة ولا شواهد حية ولا نقوش أثرية تذكر ان مكة كانت مركزا تجاريا والقرآن الكريم وصفها بأنها قرية (في واد غير ذي زرع) فأين النقوش التي تؤيد هيمنة قريش على تجارة العالم القديم.

– مكة المكرمة ليست غنية مقارنة باليمن والشام والطائف لتغري أبرهة لغزوها طمعا بثرائها الاقتصادي فالطائف تشتهر بمنتجاتها الزراعية الهائلة من الفواكه والخمور والملابس ويكفيها أن مدينة الشفا التاريخية والتي تقع جنوب مدينة الطائف كانت منذ القدم تشتهر بإنتاج العسل بأنواعه والتين الشوكي والزهور بأنواعها وكانت منتجاتها تصل إلى مناطق كثيرة فكانت مكة تقتني من بضائع الطائف فإذا كان هدف حملة أبرهة اقتصاديا فالطائف أغنى وأكثر ثراء من مكة حتى جوها انسب لجيشه من حرارة مكة الشديدة.

– سوق عكاظ في الطائف كان أكثر شهرة من مكة نفسها لأنه كان موسما دينيا تختلط فيه التجارة بطقوس الحج حتى حجاج مكة كانت انظارهم تتجه صوب الطائف وكعبته الشهيرة (اللات) وأسواقها العامرة. إن النقوش التي تركها تجار اليمن تؤكد بشكل قاطع أن دولة معين وسبأ وقتبان وأوسان وحمير وحضرموت هي من قادت التجارة العالمية في التاريخ القديم وليس مكة والحجاز.

وفي هذا يكفى الإشارة إلى قبيلة أمير أعظم قبائل مملكة معين (الجوف ) والتي وصف تجارها بأنهم ( ملوك الجمال ) وتركت اسمها في النقوش والتوراة في صورة اسم أمير وهو واديهم الشهير في صعدة فقد كانت قبيلة خولان وأحد بطونها (أمير) هي سيدة التجارة في اليمن. فلماذا لم نجد نقشاً يدل أن مكة كانت مركزا اقتصاديا اغرى ابرهة لغزوها إذ لم يكن هناك سبب ودافع خفي لحملة أبرهة.

اذا كان حقا توجد معاهدات تجارية لقريش مع بلاد الشام واليمن والحبشة كما دونتها كتب السيرة فلنا أن نتساءل:-

أ‌- لماذا لا نجد في السجلات والمصادر التاريخية للحبشة واليمن والشام إشارة لتلك المعاهدات التجارية او ذكر بنودها وما نصت عليها او نجد أسماء تجار لقريش ممن قادوا تجارة مكة بينما تركت لنا الأرض في اليمن وبابل والشام واليونان ومصر وطوال قرون أسماء تجار من مملكة معين وسبأ وسواها من ممالك اليمن . فلماذا احجمت المصادر التاريخية عن ذكر بنود تلك المعاهدات وما نصت عليها.

ب‌- هل ستخاطر الامبراطورية البيزنطية ومملكة الحبشة واليمن بنقض تلك المعاهدات التجارية والاقتصادية مع قريش بدعمها اللوجستي لأبرهة بحملته وتأييده مالم يكن الأمر والسبب والغاية من تلك الحملة تستحق المغامرة منهم لنقض المواثيق والاتفاقيات التجارية بتأييد العدوان والغزو على مكة وتدميرها وارتكاب افظع الجرائم الإنسانية من قتل وسبي واغتصاب ونهب وحرق.

ج‌- كلمة إيلاف بسورة قريش تعني معاهدة أو ميثاق تجاري أو أن لها مدلول لغوي آخر وتم التلاعب بالمعني الحقيقي للكلمة قال تعالي: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). فأن نقض الروم والحبشة لأهم بنود تلك المعاهدات مع قريش – في ضوء تفسير سورة قريش الذي يحتاج لتعمق تاريخي لأثبات صحه تفسيرهم – لم يكن إلا لسبب بنظرهم هو اعظم واجل واكبر ويستحق من اجله نقض بنود تلك المعاهدات.

الدافع السياسي

في عهد عبدالمطلب وقع حادث عظيم خلده القرآن الكريم واسهبت المصادر التاريخية في الحديث عنه حيث اعتبر المؤرخون السبب الثالث من اسباب غزو أبرهة لمكة المكرمة هو الدافع السياسي تنفيذا للخطة التي ترمي إلى إخضاع شبه الجزيرة العربية للنفوذ البيزنطي ومحاصرة الفرس من الجنوب لذلك كان للدولة البيزنطية دور في دفع أبرهة للتقدم نحو شمال الجزيرة العربية وذلك للتصدي لأي محاولة فارسية تستهدف أمن ومناطق نفوذها التجاري في البحر الأحمر.

هذا بالإضافة إلى أن بيزنطة ترى أن احتلال الأحباش للمناطق الشمالية من شبة الجزيرة العربية يضمن لها اشتراك بعض القبائل العربية التي تخضع لها عند سيطرتها على تلك المناطق فغزو ابرهة لمكة أول محاولة لجيش أجنبي لغزو بلاد الحجاز وكان الفرس والروم قد فكروا مرارا في غزو بلاد الحجاز من الشمال.

ولكنهم عدلوا عن هذه المشروعات لاستحالتها ثم كانت هذه المحاولة الحبشية بإيعاز من الروم لغزو الحجاز من الجنوب فهل كانت الحملة سببها الدافع سياسيا لمواجهة الفرس في ضوء هذه المعطيات:-هل يتوافق هذه الدافع مع معطيات الجغرافيا والموقع والأهمية للحجاز عامة ومكة خاصة. لم تكن لهذه البلاد خيرات او مميزات تجذب الغازي وتشجعه على تحمل وعورة السطح وقسوة المناخ بل ان هذه البلاد لا تجود حتى لسكانها ما يمكنهم من حياة رغدة.

وضعها الجغرافي وصحاريها القاحلة الواسعة تحمى سكانها من الغزو فطول خطوط الامدادات والتموين وجدب الصحراء وعدم وجود جيش عربي مركزي توجه الية الدولة الفارسية او الدولة الرومانية جيوشها وجهودها ادى الى بقاء الحجاز في ايدي اصحابه من العرب بعيدا عن السيطرة الاجنبية.

هل هدم الكعبة واقحام جيش حبشي قوامه ستون ألف مقاتل يقودهم حاكم اليمن وقواده من الأحباش ورؤساء بعض القبائل اليمنية للزج بهم للسيطرة على مكة تنفيذا لسياسة الدولة البيزنطية التوسعية والتصدي للفرس ؟!

أن حقيقة الصراع الاقتصادي والسياسي بين الفرس والروم كان ميدانه اليمن لموقعها وثرائها اما بلاد الحجاز ومكة فلم تكن في دائرة الأطماع السياسية لهما.

طريق الحملة

تجمع معظم الروايات التاريخية على ان ابرهة هو من قاد حملته تجاه مكة المكرمة وانه اصطحب معه فيلا ضخما اسمه محمود بعثه النجاشي اليه للقيام بتلك المهمة وقيل كانوا ثمانية وقيل اثنا عشر فيلا لهدم الكعبة بشد جدارها بالسلاسل المشدودة بالأفيال وكان لاستخدام الفيل في هذه الحملة اثر في نفوس العرب حتى انهم سموا حدوثها بعام الفيل حيث ان العرب لم يألفوها من قبل لذا كان لاستخدامها وقع كبير في نفوسهم هذا فضلا عن عديد من القوات التي اعدها ابرهة من الاحباش والقبائل اليمنية المنضوية تحت حكمه.

حيث اشتراك بعض القبائل في حملة ابرهة ضد مكة والذين انضموا اليه اثناء تحركاته ومنهم قبيلتا خولان والاشاعرة وكذلك بنو حميس بن الياس بن مضر بالإضافة الى اشتراك قبيلة عك وقبيلتي كندة وخندف اما طريق سير جيش أبرهة من الثابت عدم الوصول دلائل نصية واثرية عن طريق حملة ابرهة على مكة ولكن الطريق الذي سلكه ابرهة وجيشه فقد تحرك من صنعاء نحو مكة حيث تسمي طريق (درب أصحاب الفيل).

فاتجه من صنعاء صوب نجران والتي كانت تشكل محطة رئيسية في تجارة شبه الجزيرة العربية بالإضافة الى كونها مركز ديني للتبشير المسيحي ؟ ومن هنا اتجه نحو المناطق الجنوبية الشرقية ومنها الى الجنوب الغربي حيث لاقى قبائل خثعم التي كانت تسكن في ذلك الوقت مناطق اواسط جبال السروات اي منطقة الباحة ومن ثم اتجه نحو الطائف حيث قبيلة ثقيف.

وخرج عليه مسعود بن مصنب في رجال ثقيف فقال لأبرهة ايها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيننا هذا بالبيت الذي تريد(يعنون اللات) إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك فتجاوز عنهم وبعثوا معه أبا رغال خرج مع ابرهة وواصل مسيرة نحو مكة عن طريق منطقة السيل حتى وصل الى منطقة المغمس خارج مكة بميلين أو ثلاثة اميال وهناك لاقى قدر الله حينما ارسل عليه طير أبا أبيل.

وتورد الروايات إن أبا رغال توفي في هذا المكان ودفن فيه واصبح قبره شاهدا على من خان ابناء عمومته ودينه فرجمته العرب واصبح مثلا لمن يقدم على هذا العمل فقال فيه الشاعر جرير شعرا يشبه بعزيمة الفرزدق:
إذا مات الفرزدق فارجموه
كما ترمون قبر أبي رغال
فيما قال شاعر اخر:
وفرت ثقيف إلى لاتها
بمنقلب الخائب الخاسر

موقف القبائل

وفيما يخص موقف القبائل من حملته هذه فإن المقاومة اليمنية دون غيرها المناهضة لهذه الحملة انطلقت هي الاخرى لحظة انطلاق جحافل ابرهة نحو مكة اذا تشير المصادر ان المقاومة انطلقت من اليمن فسمع بذلك اليمنيون فخرج اليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن اجابه من سائر العرب الى حرب ابرهة فقاتل أبرهة لكن ذا نفر هُزم فأتي به اسيرا إلى أبرهة فعفا وصفح عنه أبرهة.

كذلك تذكر المصادر ان نفيل بن حبيب الخثعمي خرج بقبيلته بفرعيها تهران وناهس بالإضافة الى قبائل يمنية اخرى انضمت اليه للتصدي لأبرهة الا انه خسر المعركة واصبح اسيراً بيد ابرهة الذي استبقاه حيا وجعله دليلا له ومما يثير الدهشة اصرار المصادر التاريخية على وصف أبرهة بصفات تتنافي وطبيعة العمل الشنيع الذي يقدم عليه بهدم الكعبة حيث وصفت ابرهة (كان ابرهة رجلا حليما ورعا وذا دين في النصرانية).

وعلى الطرف الآخر نرى موقف بعض القبائل اليمنية التي ساندت أبرهة في حملته قد تغير حين حطت الحملة رحالها عند منطقة المغمس واقتربت من مكة إذ تذكر المصادر إن قبيلتي الاشاعرة وخثعم كسروا سيوفهم وأبو الاشتراك مع ابرهة في هدم بيت الله الحرام فالمصادر رغم ذكرها لسير خط جيش أبرهة لم توضح بعض الحقائق التي تثبت وتكشف حقيقة ونوايا حملة أبرهة:

لماذا اختار ابرهة طريق نجران والمناطق الجبلية بالرغم ان جيشه تتقدمه فيله. كذلك من المستغرب ان تحجم كل المصادر العربية عن ذكر تفاصيل معركة ذي نفر في مواجهته لجيش ابرهة وعن عدد الخسائر في كلا الجانبين وتحديد مكان المواجهة.

ان المعركة حسب وصف المؤرخين حدثت في اليمن وان جل أرض اليمن كانت تدين بالولاء والطاعة لأبرهة. فهذه المعركة تكشف بما لا يدع مجالا للشك انه كان هناك مقاومة وطنية حية ضد ابرهة وخروج أرض يمنية عن طاعته رافضة لسلطانه كونه محتلاً أجنبياً.

مرور جيش أبرهة على نجران ومعروف أن كنيسة نجران هي مركز التبشير المسيحي في اليمن وكانت سببا مباشراً لتدخل الأحباش في اليمن واحتلالها للمرة الثانية عام 525م الموافق 640بالتاريخ الحميري. فما كان دورها ومشاركتها في هذه الحملة الصليبية ؟ وهل شارك بعض رهبانها بجيش ابرهة لمباركة تلك الحملة واعطاء الحماس المعنوي لذلك الجيش وبنفس الوقت يكون لها شرف المساهمة كأول حملة صليبية توئد نور مكة قبل ان يشع لينير العالم ؟

وصفت المصادر ابرهة بصفات أنه رجل حليم ورع متناسين انه رجل محتل لليمن ونصراني متحمس لملته وعقيدته ومقدم على ابشع عمل بغزوه مكة والسؤال كيف يوصف بهذا من قبل المصادر حيث يناقضوا ما ذكروا انه ارتكب افظع الجرائم باليمن ومنها بعد مقتله لأرياط وتوليه الحكم قد أساء السير في حمير ورؤسائهم وانتزع (ريحانة بنت علقمة بنت مالك بن زيد بن كهلان) من زوجها سيف بن ذي يزن فجعلها زوجة له فولدت له مسروق بن أبرهة واخته بسباسة.

اضافه الى انتهاجه جرائم ترقي بمسمياتنا – كجرائم حرب – ضد الإنسان اليمني وطمس للتراث والحضارة والتاريخ كتدمير القلاع والحصون والقصور كقصر سلحين وبينون وردم الآبار وتسميم المياه الاخرى ونهب خيرات البلاد وثرواتها واستغلال مواردها لصالحه واستغلال الإنسان اليمني كسخرة للعمل لديه وغيرها من الأعمال الاجرامية التي مارسها المحتل الحبشي في اليمن خلال حكم ابرهة الذي دام 23 سنة.

اوضحت المصادر ان سبب الحملة هو دافع ديني حيث اراد ابرهة ان يجمع العرب على ان يحجوا للقليس الذي بناه بصنعاء بدعم امبراطور بيزنطة لكن لماذا احجم ابرهة عن هدم كعبة الطائف بيت (يعنون اللات ) كما اوضحنا سابقا لينصرف بعدها ابرهة نحو مكة .اذا كان هدفه دينيا جمع العرب نحو كنيسته القليس بصنعاء فلماذا يترك اهل الطائف يحجوا نحو كعبتهم دون اعتراضها بأذى؟!.

تذكر المصادر حين حطت حملة أبرهة رحالها عند منطقة المغمس واقتربت من مكة إن قبيلتي الاشاعرة وخثعم كسروا سيوفهم ورفضوا الاشتراك مع ابرهة لكن المصادر لم تذكر السبب في امتناع تلك القبائل عن مواصلة القتال مع ابرهة اليس ذلك يستدعي التوقف عنده والتساؤل فهل ادركت تلك القبائل حقيقة نوايا ابرهة وحملته وانه ليس هدفه هدم الكعبة كسبب ظاهري؟.

قريش والعدوان

اما عن موقف قريش وقبائل اخرى، ككنانة وهذيل ومن كان بمكة من سائر الناس من هذا الغزو الحبشي الذي احاط بهم فقد جاء بحسب الروايات التاريخية انهم اتخذوا ثلاثة مواقف منها الموقف العسكري والتصدي لجيش أبرهة الا انهم ادركوا انه لا يمكنهم الصمود بوجه هذا الجيش لكثرة عدده وعدته والخيار الثاني دفع خراج سنوي لأبرهة مقابل عدم المساس بحرمة البيت.

وارسلوا وفدا الى ابرهة من ضمنهم عبدالمطلب فعرضوا على ابرهة ثلث اموال تهامة على ان يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم واصراره على موقفه الرافض لأي حل سلمى فكان الخيار الثالث الذي توصل اليه اهل مكة.

فقد ذكر أبن هشام في سيرته (حيث انصرف عبدالمطلب الى قريش فأخبرهم الخبر وامرهم بالخروج من مكة والتحرز – التحصن في مكان لا يصل إليه أحد – في شعف الجبال (رؤوس الجبال والشعاب تخوفا عليهم من معرة الجيش) فقد امر عبدالمطلب اهل مكة الخروج منها واللجوء الى الجبال وبالذات النساء والاطفال والى الشعاب العبيد والفرسان خوفا عليهم من ابرهة وجيشه وترك الكعبة برعاية الله.

ثم قام عبدالمطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده فقال عبدالمطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
يا رب إن المرء يمنع
رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدرا محالك
فلئن فعلت فربما أوْلا
فأمر ما بدا لك
ولئن فعلت فإنه
أمر يتم به فعالك

ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شغف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها ولقد اسهبت كتب التاريخ في سرد الحوارات والمفاوضات التي جرت بين عبدالمطلب وبين ابرهة ومما لا شك فيه ان فيها الشيء الكثير من المبالغة غير المبررة لذا تجنبنا اعاده التذكير بما ضجت به المصادر لكون إعادة وتكرار ما قيل يسبب قناعه بحقيقتها عند القارئ وتصبح عنده حقيقة لا تقبل الشك والنقد والتحليل والتمحيص ويؤمن بها كحقيقة مطلقة تناقلتها كل المصادر.

بالرغم ان تلك الاخبار لا تستند لنصوص مكتوبة بوقتها ولا يوجد نقش اثري كشاهد مادي فهي تناقلت شفهيًا وبالتمحيص والنقد والمنهج العلمي لا ترقى ان تكون حقيقة تاريخية ونتائجها مسلم بها لموقف عبدالمطلب خاصة وقريش عامة من حملة أبرهة.

فالعقل والمنطق والواقع يقول خلاف ما ذكر من حيث الاتي:-

الحقيقة التاريخية تقول القوي لا يفاوض فالذي يفاوض من وجد نفسه امام خصم قوي وند له. فكيف يفاوض ابرهة بعد ان سحق جميع القبائل التي خرجت لمقاومته واصبح على ابواب مكة بجيش جرار تتقدمه بضعة فيله.

أبرهة غاز محتل له تاريخ أسود بالقتل والأجرام فالتاريخ منذ قديمة حتى حديثه لم يثبت حالة واحدة لمحتل انه اتصف بصفات اخلاقية وإنسانية كمثل ما ذكرتها المصادر بما يخص أبرهة وما دام هو بذلك الصفات والمبادئ لماذا تحرك بجيشه لغزو مكة؟!.

المصادر تناقض نفسها حين ذكر ان ابرهة سأل عن سيد قريش ليفاوضه في حين ان عبدالمطلب كان هو المبادر مع وفد للتفاوض مع ابرهة بإعطائه خراجاً سنوياً ورفض ابرهة ذلك الخيار.

جيش يضم العديد من جند الأحباش ومن اغلب القبائل ومن المرتزقة وبعض قبائل اليمن وغيرهم متجهون صوب مكة فهل يعقل ان يكون هدف أبرهة هو هدم الكعبة ومن ثم الانسحاب ! دون سبي ونهب واغتصاب وحرق وتدمير وتحويل مكة لأرض محروقة بعد تحقيق هدفه الحقيقي.

عبدالمطلب ادرك أن قرار تدمير مكة وحرقها وقتل اهلها قد اتخذ من قبل امبراطور بيزنطة بتوجيه مملكة الحبشة التابعة له وما أبرهة الا قائد جيش مسحي لتفيذ ذلك القرار الصليبي فعن أي مفاوضات تحدث بها المؤرخون بين أبرهة وعبدالمطلب!.

وما يؤكد معرفة عبدالمطلب بنوايا جيش أبرهة اصدر أوامره لأهل مكة بالخروج منها والتحصن بأعالي الجبال ليحمى أهل مكة من جيش ابرهة وبطشه وهذا ما تناقض المصادر نفسها ان ابرهة اراد التفاوض معه لدخول مكة سلميا وهذا الخيار ينسف كل ما قيل من حوار بين عبدالمطلب وأبرهة.

فالملوك كما قالت ملكة سبأ بلقيس (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) النمل : 34. اليس الفساد هو القتل والسلب والنهب فكيف بحملة واءها كهنة النصارى وحقد الرهبان والأحبار منذ خمسة قرون منتظرين تلك اللحظة للقضاء على نور السماء الذي ستشرق انواره بمكة جوار الكعبة المشرفة.

الذين حملوا راية المقاومة ضد أبرهة من القبائل أصبحوا عون له ومن جنوده وأدلة له ومفاوضين فالروايات الشفهية كتبت كما هي ولم يكلف بعض المؤرخين نفسه حتى التساؤل والبحث بذلك ؟ مكة وموقعها الجغرافي وطبيعتها لا تجعلها تصلح لتكون ساحة قتال فالجبال تحيط بها من معظم جهاتها وتجعل الكر والفر عسيرا كما كانت مكة فقيرة في موارد مياهها وامداداتها وتموينها مما يجعلها لا تحتمل حصارا طويلا أو حربا عامة.

ذكر الصليب في شعر عبدالمطلب يجعل القارئ يدرك الهدف الحقيقي من حملة أبرهة لذلك توجه لله في دعائه مما يؤكد انه كان على دين الحنفية الابراهيمية. ولم نجد من كفار قريش من استنجد بأصنامهم وآلهتهم التي دنسوا بها الكعبة واشركوا بها وحدانية الله تعالي.

معجزة السماء

وعندما عزم أبرهة على هدم الكعبة وتهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه وكان اسم الفيل محمود وأبرهة مجمع لهدم الكعبة ثم الانصراف إلى اليمن فلما وجهوا الفيل صوب مكة برك الفيل بالمغمس وهي مكان خارج شرق مكة المكرمة ببضع كيلومترات فلم يتحرك الفيل ونخس بالرماح فلم ينهض وضربوه ليقوم فلم ينهض فوجهوه راجعا الى اليمن فقام يهرول ووجهوه الى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه نحو الشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه الى مكة فبرك.

وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طير منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وجحران في رجليه امثال الحمص والعدس لا تصيب أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاؤوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن.

وقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالبُ
والأشرم المغلوب غير الغالبُ

في حين قال الشاعر الجاهلي أبو الصلت الثقفي:
إن آيات ربنا بينات
ما يماري فيهن إلا كفور
حبس الفيل بالمغمس حتى
ظل يحبو كأنه معقور

فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم وتتسقط انامله كلما سقطت انملة اتبعتها منه مد قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر حتى انصدع صدره عن قلبه فمات وقد دام حكمة 23 سنة.

اما بقيه جيشه اقام بمكة فلول من الجيش وعسفاء وبعض من ضمه العسكر فكانوا بمكة يعتملون ويرعون لأهل مكة فأنيس سائس الفيل وقائده عاشا حتي البعثة النبوية بمكة وقد أصابهم العمى وقد خلفت حملة أبرهة فلولا هاربة مما لحق بجيش أبرهة لم تر بدا من الحياة في مكة فيذكر الأزرقي في كتابه (أخبار مكة وما جاء فيها من الأثار) ( وأقام بمكة فلول من جيش أبرهة وبعض ضمه العسكر يعتملون ويزرعون لمكة).

وفيما يخص اموال وغنائم جيش أبرهة اشار القرطبي وكذلك الماوردي في كتابه (اعلام النبوة ) ص173(فقد بعث عبدالمطلب ابنه عبدالله ليأتيه بخبرهم بعد أن شاهدوا الطير يتجه نحوهم فوجد جميعهم قد شدختهم الأحجار حتى هلكوا فعاد راكضا إلى ابيه عبدالمطلب وأصحابه وأخذوا اموالهم فكانت أول أموال بني عبدالمطلب ).

فلما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم من النقمة أعظمت العرب قريشا وقالوا : اهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم فجعلوا يقولون في ذلك الأشعار ويذكرون ما صنع الله بالحبشة وما دفع عن قريش كيدهم ويذكرون الأشرم والفيل ومساقه إلى الحرم وما أراد من هدم البيت واستحلال حرمته.

ورغم حشو المصادر بتفصيل الاحداث مع قدوم ابرهة صوب مكة ندرك حقائق منها ما اوضحت وفتحت العديد من التساؤلات واخرى لم تظهر من ذلك:- منطقة المغمس التي برك فيها الفيل كانت خارج مكة المكرمة على طريق الطائف وتبعد عن الكعبة المشرفة بضعة كيلو متر في حين تذكر المصادر وتعلل سبب تواجد العديد من الفيلة هو ربط الكعبة بالسلال لتجرها وقت هدم الكعبة فأين بقيه الفيلة ولماذا غير ابرهة خطته وهدفه وجعل من منطقة المغمس مركزاً لقيادته.

كان الجيش الحبشي كثيف العدد – ستين الف مقاتل- يزخر بالسلاح والعتاد وقد بذل أبرهة جهدا كبيرا في اعداده وامداده بالذخائر والتموين واستعان بما وجده في بلاد اليمن وبما ارسله النجاشي له من الحبشة فقد بعث له بالرجال والسلاح والفيلة وهو جيش منظم اعتاد الحرب وخبر فنون القتال.

وهو الجيش الذي نجح في القضاء على المملكة الحميرية وهو جيش الاحتلال الذي يستعين به الأحباش لتدعيم الاستعمار في بلاد اليمن. فهل هذه الجيش وفي مقدمته افيال هدفه هدم الكعبة فحامية واحدة تكفي بالغرض.

لماذا اتخذ أبرهة من منطقة خارج مسرح عملياته القتالية مقراً له بالرغم أنه لا توجد قوى تكافئ جيشه وتقاومه فهل أدرك ابرهة خلو مكة من سكانها فأتخذ من منطقة المغمس مقراً لقيادته وأعاد خطته العسكرية وتقسيم جيشه إلى فرق متعددة .فهل كان هدفه هدم الكعبة أم قتل وسبي النساء والأطفال؟

فهل توجهت فرقة من جيشه نحو شغف الجبال والشعاب. فذكر القرطبي ( لم يرجع منهم أحد إلا أميرهم رجع ومعه شرذمة لطيفة فلما أخبروا بما رأوا هلكوا ) فأبرهة وبعض جنوده لم تصبهم تلك الطيور بل اصيب ابرهة بداء ومات في صنعاء والآية واضحه انها جعلتهم كعصف مأكول فأي فرقة من جيشه أصيبت واين اصابها غضب الله وعذابه ؟!.

كان لهزيمة حملة الفيل محور لنشاط أدبي كبير فقد اتخذه كثير من الشعراء موضوعا لقصائدهم نذكر منهم أبو قيس بن الأسلت وطالب بن أبي طالب بن عبدالمطلب وأبو الصلت بن ربيعة وغيرهم. لكننا لا نجد قصيدة واحدة دونت الأحداث بالتفصيل وكشفت حقائق تاريخية او علقت بجوف الكعبة كالمعلقات السبع التي قيل أنها كتبت بماء الذهب.

لماذا غاب التدوين في الحجاز ومكة ولم يعثروا على نص أثري أو دليل مادي لتلك الواقعة او وثيقة مكتوبة دونها اهل قريش مثلما دونوا صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني عبدالمطلب بجوف الكعبة.

هل كان بلال بن رباح وغيره من عبيد الأحباش الذين كان آباؤهم من ضمن جنود أبرهة والذين ظلوا بمكة ولم تصبهم طير أبابيل وعرفوا حقيقة الحملة لذلك لما ظهر الاسلام بمكة أسرعوا الى اعتناقه وتحمل كل صنوف العذاب من كفار قريش ليرجعوا عن دين محمد صلى الله عليه وآله سلم.

الشاهد التاريخي

ان هناك حقائق مخفية وأن تلك الروايات التي دونت أسباب حملة ابرهة لغزو مكة كانت شفاها وأن من دونها ليسوا معاصرين للحدث فأخذها المؤرخون لكونها تتفق مع السبب والهدف الظاهر لحملة ابرهة العدائية ضد مكة والمتبلورة في صورة دافع ديني لنشر النصرانية في البلاد العربية.

جاعلا من هدم وتدمير بيت الله الحرام نقطة البدء والانتشار في تحقيق تلك الغاية الى جانب الاعتبارات والأسباب السياسية والاقتصادية والتي اعتبرها كثير من الباحثين المحدثين للأسف الهدف الحقيقي للحملة رغم اشاراتهم عن دور بيزنطة والحبشة في قيام تلك الحملة الغاشمة على مكة.

وستظل ما اشرنا اليه يحتاج لدراسة اعمق ومستفيضه فهذا العمل ما هو إلا فرضيات وضعت حول حادثة تاريخية تستدعى الوقوف عندها بالنقد والتحليل والتمحيص لتعريه اخبار مروية شفهية ظلت تسيطر علينا لعقود من الزمن وكأنها حقيقة تاريخية محرم الخروج عنها او انتقادها والتشكيك بصحتها.

________
علي الشراعي