يطرح الإعلام العربي ضمن تغطيته الإعلامية لعملية طوفان الأقصى العديد من علامات الاستفهام والتعجّب مع قضيّة وُصفت بكونها الأولى وقضية الأمّة، ومن المفترض أن يكون هذا الإعلام موحداً، يُبعد انحيازاته وأجنداته جانبًا ليقوم بدوره في تغطية المستجدات الميدانية والسياسية، ويكون رائداً في معركة الخطابات والسرديات.
لكن الواقع يخبرنا بمشهد مختلف، ذلك أنّ الشاشات وإن بدت للوهلة الأولى متقاربة في تغطيتها لمستجدات الصراع الإسرائيلي العربي، فإنّ نظرة فاحصة تكشف أمامنا أبعادًا متضمنة في ثنايا المصطلحات المستخدمة في محاولة تساوي بين الجاني والضحية. في المقابل تصدّى الإعلام المقاوم بتشكيله الوعي العربي الإسلامي والإنساني، في الفضاء الإعلامي العربي، وشارك في صناعة إيجابيات الفعل المقاوم، مع تجاوز الوقوع في سلبية الضحية.
الاعلام العربي: اتجاهات رمادية التأثير
جاء طوفان الأقصى في الوقت الذي وصل فيه مسار التطبيع بين السعودية والكيان الصهيوني إلى مراحل متقدمة، حيث ناقشت العديد من التحليلات تداعيات الأحداث الجارية.
أولاً: الإعلام السعودي
تناول الإعلام السعودي الأحداث من خلال: المساواة بين الضحية والجاني، التجني على الحقائق وتجاهل جرائم الاحتلال، والتقليل من المنجز الفلسطيني. وركّزت قناة العربية السعودية على تغطية عملية طوفان الأقصى وعلى الاشتباكات بين فصائل المقاومة من جهة وبين الكيان الصهيوني من جهة ثانيّة، حيث انتقلت لتغطية الحدث على مدار الساعة، ومع ذلك فقد ظهر جليًا تغيّر الخطّ التحريري للقناة خلال هذه المعركة مقارنةً بما كان عليه الوضع قبل سنين.
حيثُ كانت العربية تصفُ الضحايا الفلسطينيين باسمِ “الشهداء” مثلها مثل عددٍ من القنوات العربيّة لكنها استغنت عن هذا الاسم وصارت تصفهم ب”القتلى” أو “الضحايا” لإظهار نوعٍ من الحياد. أما قناة الحدث السعودية فما تقدمه هذه القناة من سردية يتماهى مع الدعاية الإسرائيلية والأمريكية، بل أنه جزء منها، بعيد عن الحيادية التي تدعيها في خطّها التحريري. كما لا يختلف الخط التحريري لقناة سكاي نيوز عن غيره من السرديات التي بدت غير مؤيدة بوضوح للمقاومة الفلسطينية في غزة، حيث تعهدت منذ بداية عملية طوفان الأقصى على تبني الروايتين الإسرائيلية والغربية لتطور الأحداث.
ثانياً: قناة الجزيرة
معادلة التصادم والاصطفاف تمثلها على المستوى العربي ثنائية قناة العربية، الحدث، سكاي نيوز من جهة، وقناة الجزيرة القطرية من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، يكون المتلقّي متابعا لأحداث العدوان الصهيوني ضدّ قطاع غزة، ليلاحظ أنّ الجزيرة تنقل صوراً عن الجرائم الدموية التي يرتكبها جنود الاحتلال في غزة، وتعلّق بنوع من التعاطف النضالي مع الفلسطينيين، لكنها، من باب انخراطها في اللعبة الاعلامية تقوم باستضافة رموز الدم في الكيان المؤقت، وتمنحهم كل الوقت لتبرير جرائهم، ووصف حماس وقادة المقاومة بالإرهاب.
المشكل الأساسي للسردية الإعلامية التي تقدمها قناة الجزيرة القطرية ويتبناها خطها التحريري أنها تلتزم بعنوان” الفضاء المفتوح” بالتعاطي مع الإسرائيلي كطرف في الصراع وليس كعدو، وهي القناة في المقدمة، لكنها، ورغم نجاحها، إلا أن هذا لم يمنعها من أن تكون مصدرًا للجدل حول هويتها وأهدافها واتجاهاتها، فقد أثارت سياستها بشأن استضافة شخصيات صهيونية على شاشتها جدلاً كبيراً.
الإعلام المقاوم: انتصار معركة الرواية
تنقسم تغطية عملية “طوفان الأقصى” بين طرفين متناقضين إعلاماً داعماً لحركات المقاومة وبمثابة ذراع لها، تقابله وسائل إعلام صهيونية، وبين هذَين المعسكرين حرب ضروس لا تقلّ ضراوة عن تلك الجارية في الميدان، وعند كليهما تجد ما يترجم التزام صارم بنُصرة أحد فريقَي الصراع والتمكين لروايته، بل وشنّ حرب نفسية على الطرف المقابل، تتضمن تبرير الأعمال العسكرية ضدّه والتشنيع عليه، وتأليب الرأي العام ضده بكل الوجوه الممكنة.
لعبت قنوات، مثل الأقصى، والمنار، والقدس اليوم، وفلسطين اليوم، والميادين وغيرها، دورًا مشهودًا في معاضدة الجهد العسكري، وتحشيد الدعم الجماهيري لنصرته. وواجهت تلك القنوات محاولات لإسكاتها على اعتبار أنها صوت لما يعتبره الكيان الصهيوني وكل الدول المتحالفة معه “تنظيمات إرهابية” لا حقّ لها في الوجود أصلاً. فجرى التضييق على السردية الفلسطينية التي تنقلها هذه القنوات. حيث تم حظر شبكة القدس وقناة القسام، وأقدمت شركة ميتا، الشركة الأم لمنصّة فيسبوك على حظرِهما، ما دفعَ الجناح العسكري لحركة المقاومة حماس لتنشيطِ القناة الرسميّة الخاصة بها على منصّة تيليغرام التي تتمتعُ بهامش حريّة أكبر من باقي الوسائل والمنصات.
في الوقت الذي تجاهلت فيه وسائل الإعلام الغربية، معايير المهنية والحياد في تعاطيها الاعلامي مع الحرب على غزة- وهي التي طالما تغنّت بالاستقلالية والرصانة-، سخّرت بعض وسائل الإعلام العربية نفسها لخدمة الرواية والسردية الإسرائيلية، حتى بدت وكأنّها إعلام حربي في درجة من التماهي مع الرواية الإسرائيلية.
يبقى على الإعلام المقاوم مسؤولية كبيرة في استمرارية التصدي للرواية والدعاية الصهيونية ولسردية الغرب التي تركز دائماً على “مظلومية اليهود” و”حقهم في الدفاع عن النفس”، واختزالها لحق تقرير المصير في الشعب اليهودي، في مقابل إقصاءها للحق الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وأرضه ووجوده.