تحت أطنان الخرسانة في مجمع تحصينات سلاح الجو الإسرائيلي “نتنياهو” ووزير الحرب “يسرائيل كاتس” ورئيس أركان العدو “إيال زامير” برفقة كبار القادة العسكريين يتابعون في بث مباشر عبر الأقمار الصناعية يربط 30 طائرة حربية بغرفة القيادة المحصنة تحت الأرض في قلب يافا “تل أبيب”، هناك حيث أشرفوا ولمرتين على استهداف ميناء الحديدة ومطار صنعاء الدولي ومحطات الكهرباء في صنعاء ومصنع إسمنت عمران ومصنع إسمنت باجل الخارج لتوه من العناية المركزة بعد غيبوبة طالت 23 عام بفيلق الفساد والإفساد، والنتيجة عدد من الشهداء والجرحى وبضعة حرائق وخوذة عامل عادت لطفلته مضرجة بالدماء خالية من الأب والحنان.
وحيث باجل 1200 أسرة لا يغذي صدر روحها استنشاق الأكسجين بقدر ما تمنحه الأغبرة والدخان المتصاعد من أفران مصنعهم العتيق جرعات الحياة، وإذ كانت الجملة “باقون مابقي الزعتر والزيتون” الثقيلة على صدر الكيان من أبناء فلسطين المتشبثين بأرضهم، فإن نظيرها هنا “باقون ما بقيت أدخنة الفرن والطاحون”.
ولا يختلف إثنان أو عشرة بأن الاجتماع والإشراف المباشر -المواكب لإعلان النتن ياهو عن عملية واسعة ومكثفة على غزة لاحتلالها وتهجير أهلها- أنها من الباب الدعائي لداخله المتصدع والهش والذي لولا حبل من الناس الأمريكي والناس الأعرابي وناس من الناتو لكان في خبر كان وأهلها وأخواتها، هذا الحبل كان قناع الأكسجين الذي أمده بأسباب البقاء، ومع ذلك سيظل حبلا في مواجهة جمرات المقاومة وتبقى حالته “وفاة سريرية” حرفية لا أدنى ولا أقل، فمن يفشل في 4 حواري في جنين ونابلس وطولكرم وطوباس، أبعد بآلاف المرات من السيطرة على أضغاث أحلامه في قطاع غزة، فضلاً عن ملايين المرات عن غيرها؛ غير أن هذا الاستهداف كان له وقع خاص على قلوبنا وعقولنا التي طالما اقتاتت على فتات الحصى والحجارة المطحونة في مصنع إسمنت باجل والذي يتجاوز تعريف “المنشأة أو مصدر الدخل والحياة” ليرتقي إلى رتبة رفيق ووالدٍ كريم لا أدنى ولا أقل.
سيحتقرك والدك إن بكيت بالقرب منه عقب الاعتداء عليه من بلاطجة القرن والذين للتو انهالوا عليه بالضرب لينزف من قلبه الحريق وينفطر أمام ناظريك، ولهذا حُرِّم البكاء والحزن في هذا المقام، هذا المقام ليس مقاماً للنواح والنحيب، فأغلى ما لديك عندما يعتدى عليه لا يعد إعتداءاً فيزيائياً على مقدرات وجغرافيا، بل صفعة في وجهك تُخدش معها الكرامة وكل مفردات الشرف.
وأي شرف أغلى من “الأغلى على قلبك وروحك” إن كان مصنعاً أو منزلاً أو زوجة أو مدينة أو قرية، فالثمين هو شرف وكرامة تلك القرى والمصانع والأمهات والزوجات، لتصبح المدن والقرى والمصانع في هذه الحالة كالأم التي لا تحب نواح الرجال، ولا يعجبها الرجولة المنكسرة القابعة في مستوطنات الحزن والانكسار.
ومعذرةً لحزن البعض على مصنعنا وأبانا الحبيب، إن قلت أنه دعائي كدعاية نتنياهو -لا أدنى ولا أقل- ولا يرقى لمفردات الحب والوفاء، مصنعنا قُرانا بلداتنا لا يميل قلبهن إلى ذُكور يبكون مثل النساء، ومن يخال أن عبارات العشاق الرخيصة لبائعات الهوى ستمر على والده المجروح في قلبه من حديد وهراوات البلاطجة وقنابلهم، ويحاول استنفار أصابعه لكتابه المبررات لقنابل مجرمي العصر الذي لا يرقبون في آبائهم وأمهاتهم “إلا ولا ذمة”، فهو واهم ومشتبه وسيحتقره أباه -أيما احتقار- ولن يراه إلا عاقاً وناكراً لكل عرق ينبض بالحياة في جسده، ولو خُير والده خياراً لاختار طرده من سور عيناه وفناء منزله كونه لا يستحق حتى نظرة منه.
ومن يخال أن براعته في حياكة المبررات بنسبية وتناسب القوة وفتح مرثيات “لا طاقة لنا بنتنياهو وترامب وجنوده” ستشفع له عار الخذلان والخيانة، فهو يحتقر دينه الذي يدعو لإعداد ما استطاع وليس ما توصل له الآخرين في آلة الحرب، ولا أعلم حقيقة ما الإعداد الذي يريدونه وهم نائمون، ولا أعلم حقيقة ما هي آيات الجهاد التي يقرؤونها في كتاب الله الحكيم ولا يرون فيها فتنة ومغامرة ولا تنطبق عليها قوانين نسبية القوة والاقتدار.
وليعذرنا من تألم وشاء حضور عوامل ردع العدوان مبكراً وسريعاً وهو نائم، فليبحث هو الآخر أيضاً عن حفلات للردع ولينتقي منها ما شاء، أو فليذهب إلى متاجر الألعاب ليشتري بعضاً منها، ومن يتذمر من أداء الأبطال المجهولين الغير مرضي لقوة تخيلاته فهنالك مهرجانات للحسم والانتصارات تُقام في الأماني والأحلام، أو فليتعلم من النتن ياهو بعضاً منها.
ومن أراد النحيب والبكاء على جرائم ومجازر عدوان ظالم بكل المقاييس فاننا لا نملك شيئاً لروحه لنعطيه إياه فيرتاح ويتقلب في العيش الرغيد واللذيذ، فكل ما نملكه هو قلب شجاع وعشق لا ينتهي للأرض والمصنع والحي والشارع والجبل والبحر الذي عشقناه حتى الموت كالقرابين تحت أقدامه تزلفاً لله الواحد المعبود، ولا نمتلك سوى أعين واثقة بوعده ملء البحر، لكنها جافة ليس فيها دمعة واحدة، لأننا نحتفظ بكل دموعنا لساعات الفرح بالنصر.
مصانعنا أحيائنا قرانا حُرة طالما بقي لها رجال يجدّون في أثرها ويسعون إلى لقائها وعناقها وتقبيلها، فالحُرّة لا تسقط عندما تقع في العدوان والأذى مهما كانت شدَّة فتك العدو وهمجيته وجنونه، لكنها تغدو جارية مُستعبدة عندما يبكيها رجالها وينوحون ويندبون تماماً كما فعل العرب في مدن فلسطين التي بكوها خلف الأبواب وهم يستمعون إلى فض بكارتها.. فسقطت في العار منذ ذلك الوقت.
وفي ذلك حكاية فلسطينية مؤلمة بعنوان “متى تنام هذه القرنفلة الحمراء؟” وفيها يتحدث مهاجر فلسطيني عن ألمه عندما تجول في قريته التي هجرها واحتلتها عصابات داعش الصهيونية أيام النكبة، وعندما مر أمام البيت الذي ولد فيه وشهد طفولته وصباه توقف وتردد مرتعشا، وبعد تردد وتألم ودموع قرع الباب ليطل منه وجه امرأة إسرائيلية حيث يقدِّم لها الفلسطيني نفسه بأنه ولد في ذلك البيت وعاش فيه طفولته وصباه مع جده وأبيه وأمه واخوته، وأنه في الحقيقة هو صاحب البيت..
فأبدت المرأة لا مبالاتها من رجل أعزل يريد بيتها الذي أخذته منه بالقوة، وفيما هو يجادلها لمح من الباب فناء الدار الذي ظهرت في باحته ورود حمراء من القرنفل والتي زرعها مع جده أيام كان طفلا، فطلب منها أن تعطيه وردة واحدة فقط من تلك الورود.. فتقبل المرأة الإسرائيلية على مضض، وتدخل وتعود وتحمل معها وردة واحدة تدفع بها إليه باحتقار شديد ولكنها قبل أن تغلق الباب وتصفقه في وجهه تقول له أقسى كلمة في حياته ولكنها تلخص كل الحياة.. قالت له: تذكر أن “ليس صاحب البيت من يرثه.. بل صاحب البيت من يحميه”، ومن يومها يطوف هذا الفلسطيني العالم ومعه وردته التي لا تنام.. وهي تسأله.. لِم لَم تحمِ بيتك؟؟.. إنك لا تستحقه..
هذه قصة يجب أن تردد كالنشيد والزامل وتصبح أيقونة على الصدر من الجد إلى الحفيد، لأن البكاء والتراجيديات لا تعيد المصانع والمدن المقصوفة والجريحة.. بل تعيد لها القناعة المطلقة أننا لا نملك الحق في مصانعنا وقرانا إذا لم نحمها ونقاتل من أجلها ونأخذ بثأرها، وإذا كان الأمريكي يأتي بأساطيله من أقصى الأرض الى أرضنا فأنها حق له إذا تخلى عنها أهلها فيما هو بذل الغالي والنفيس من أجلها، تماما كما أن فلسطين لا تحق للفلسطينيين ولا للعرب ولا للمسلمين إذا كانوا يريدون الهجرة منها فيما اليهودي يهاجر إليها من أقاصي الدنيا ليعمرها بعقيدته.
مصنعنا هذا لا نستحق حتى سماع هدير دوران عجلة من ماكيناته، ولا استنشاق غباره المبهج لنا، بل نستحق استنشاق السم الزعاف للخلاص من عصاة ناكرين لفضله وأفضاله علينا من رأسنا إلى أخمص القدمين.
وإذا كانت أمريكا وإسرائيل قد أفسدتا علينا أجزاء من المصانع والموانئ والمطارات، فقد أفسدنا عليهم مليارات الدولارات، كانت 6 مليار معترف بها أمريكياً قبل إعلانها التوقف عن عدوانها، 6 مليار دولار بتكلفة 40 مصنعاً للإسمنت، أو 5 مطارات، أو 5 موانئ، فنحن ممن يذعن للقائل تعالى شأنه: “إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون”، ولا يذعن أو يقطب حاجبيه لأسباب ومسببات وحسابات الدنيا وثقافة الحياة، فإسناد اليمن لغزة واجب ديني ودعوة مسطرة بالقرآن ليست مندوبة أو مباحة لمن أراد، وليست في محل تأويلات وتحليلات وتفسيرات من هب ودب.
وشهدائنا ارتقوا بغارات أعداء الله والإنسانية أمريكا وإسرائيل، وليست وفاة طبيعية أو حادث ما، ونحن نذعن للقائل جل علاه: “أينما تكونوا يدرككم الموت”، و “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”، فضل ليست خسارة لشهداء ارتقوا بقنابل أمريكية إسرائيلية هدفها إيقاف إسناد غزة وأبنائها الكرام الذين يعلنون هلال العيد كلما وصل صاروخ يمني لينشدون فيه ما لم يقله المتنبي في سيف الدولة الحمداني.
ولذلك لن نكترث بفِرق البكاء والردح -وما أكثرها- بل مايفاجئ هو أن بعض البكائين والمولولين واللطامين هم من المتربصين الذين يندبون كالأرامل ويريدون تحويل أجسادنا إلى أجساد منتجة للدموع فقط، ولكن نحن من يدرك أننا في زمن ليس للبكاء، ونحن من لا نقدِّر كثيرا النشيج والتفجع ولا يهمنا أن نتعلم مسح الدموع ولا انتاجها، ولا يعنينا أن نبكي على مقدراتنا ومدننا، بل أن نسير فيها بحرابنا، ونغازلها برعودنا، ونعلق أيقونات الرصاص كالعقود في صدورها وجدرانها ومداخنها، ونبخرها برائحة البارود والدم.
وإذا كان ذلك الفلسطيني قد تألم من عبارة المستوطنة الداعشية الإسرائيلية بأن صاحب البيت هو من يحميه، فأننا نعترف بأن أجمل ما يجب أن يتعلمه أبنائنا قبل تعلم الأحرف الهجائية هي هذه العبارة: “ليس صاحب البيت من يرثه.. بل صاحب البيت من يحميه”.. وليس صاحب المصنع من عمل وعاش فيه.. بل من يحميه ويقتص ممن تجرأ على عُماله وجسده.
إن كل المدن والمصانع والموانئ التي طالها الإرهاب الأمريكي الإسرائيلي لم تتألم بقدر تألمها من أصحاب الأرض، وكل موضع استوطنت فيه غارة للعدوان الأمريكي الإسرائيلي البريطاني وأحذيتهم لهي قُبلة وتحرُّش ومحاولة للسبي وهتك العرض لن تتألم منه الأرض بقدر تألمها من خذلان أبنائها الذين رضعوا منها وتربوا في كنفها، ثم رفثوها عندما أبهرتهم حضارة ربطات العنق والماكدونالدز وتنكروا لخبز الموفى من رحم الإسمنت الحار على غمسة قهوة ذات صباح.
إن كل موضع دُنس بغارات العدوان -لا شك- أنه يحتقر كل متخاذل، ولا شك انه يحس بالذل من انهمار دموع الحزن على الشهداء والجرحى كالأرامل والأطفال، بدل أن تصخب شوارعه بأناشيد وزوامل التحدي وتهز أعمدته وجباله أصوات زئير الرجال بالوعيد بالانتقام والثأر، فمن يملك المصانع والمدن ليس من يأسرها ويرثها ويعمل فيها ويترعرع فيها.. بل من يقاتل ويثأر لها، هذا درس وقانون يماني إيماني سرمدي لا يُساوم عليه، وعلى كل بكّاء يندب ويشجب -إن كان باراً- كتابة الوصية وشد الرحال إلى النصر المبين، وأضعف الإيمان قولاً سوياً وإنفاق لصناديق التصنيع، والله المستعان إن تركناها للقادمين من وراء البحار السبع ومعهم المتردية والنطيحة وما أكل السبع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحرر السياسي
المشهد اليمني الأول
8 مايو 2025م