لم يمضِ بعد شهر كامل على الصفعة الأولى التي وجهها ترامب لنتنياهو خلال زيارته الثانية إلى البيت الأبيض، حين فاجأه بإجراء اتصالات مباشرة مع إيران، بينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يأمل في إشعال عود الكبريت بين واشنطن وطهران. لم يمضِ شهر حتى وجه ترامب الصفعة الثانية بإعلانه المفاجئ عن اتفاق مع الحوثيين في اليمن، دون أي تنسيق مسبق مع إسرائيل، مما وضع نتنياهو مجددًا في موقف حرج. واثار معه تساؤلا مشروعا عما إذا كان ذلك مؤشراً على بدايات تحول استراتيجي في السياسات الأمريكية نحو اسرائيل أم أنه مجرد تغيير في أجندة الأولويات الامريكية.
الحقيقة فقد أضاف الإعلان الأمريكي عن الاتفاق مع الحوثيين أبعادًا جديدة في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، خاصة وانه ينص على وقف الهجمات الحوثية على السفن الأمريكية في البحر الأحمر مقابل توقف الولايات المتحدة عن ضرباتها الجوية ضد الحوثيين، ولم يشمل وقف الهجمات الحوثية على إسرائيل. وهذا ما قد يضع تل أبيب في موقف صعب، حيث تُركت تواجه تهديدات الحوثيين دون غطاء أمريكي مباشر، ما يثير تساؤلات عما اذا كان ذلك يؤشر لتراجع في حجم وطبيعة الدعم الأمريكي لإسرائيل.
ومن المهم هنا التأكيد على أن الاتفاق مع جماعة انصار الله لا يُمثل خروجًا عارضًا عن سياسة ترامب واستراتيجيته عن وضع امريكا اولا، بل هو تجسيد لذلك التصور الاستراتيجي الذي بدأ يتبلور في سياسته منذ وقت مبكر وحتى اثناء حملته الانتخابية. وهذا التصور كما صار معروفا يرتكز على “إعادة تعريف الالتزامات” الأمريكية وفق مبدأ الأولويات الوطنية المباشرة. ففي كل من ملفات إيران، وسوريا، واليمن، أظهرت الإدارة الأمريكية ميلًا واضحًا نحو التمايز عن الموقف الإسرائيلي، وإعادة ترتيب التحالفات بما يتناسب مع المصالح الأمريكية المباشرة، حتى وإن كان ذلك على حساب الحليف التقليدي والأقرب للولايات المتحدة.
والأمر الذي يعزز هذا الفهم او المخاوف الاسرائيلية من تحولات ما ٤ي الخيارات الامريكية هو رد الفعل الإسرائيلي على الإعلان الأمريكي. إذ أفادت تقارير صحفية بأن نتنياهو وحكومته عمدوا إلى إعلان أنهم علموا بالاتفاق عبر وسائل الإعلام، ليكون ذلك بمثابة رسالة غضب من إسرائيل، تُعبّر عن الخلل العميق في التنسيق بين الحليفين، لا سيا ووفقًا لهذه التقارير، فإن الاتفاق قد يشجع الحوثيين على مواصلة استهداف إسرائيل دون تدخل أمريكي لردعهم، كما أنه يقيد حرية الحركة العسكرية لإسرائيل في اليمن دون وجود دعم أمريكي مباشر، اذ من شأن ذلك ان يؤدي لانهيار الاتفاق الذي ما زال تحت الاختبار وفقا لما قاله المتحدث باسم جماعة الحوثي.
وفي هذا السياق، وان صحت هذه القراءات الاولية فان سلوك الرئيس ترامب يُظهر تحوّلًا تدريجيًا في سياسته تجاه إسرائيل، حيث بدأ على ما يبدو يتبنى مقاربة براغماتية تخضع للمصلحة الأمريكية المباشرة بدلًا من الالتزام الأيديولوجي الثابت بمصالح إسرائيل الأمنية. وبالرغم مما حرص ترامب على اظهاره منذ ولايته الاولى وخلال التمهيد للولاية الثانية وبعد عودته الى البيت الابيض من أنه كان وسيبقى حليفًا قويًا لإسرائيل، الا ان مواقفه تجاه إيران والحوثيين تؤشر على تراجعات ما ولو على مستوى الدعم المطلق الذي يبدو انه صار مشروطا، وان اسرائيل قد بدات تأخذ علما بذلك، ففي محطات سابقة، مثل إعلان ترامب عن مفاوضات مباشرة مع إيران أثناء لقائه مع نتنياهو، كانت إسرائيل قد تفاجأت وازدادت مخاوفها من إمكانية توقيع اتفاق نووي مع إيران يتجاهل مصالحها الأمنية.
واليوم فان هذا العلم الاسرائيلي يزداد يقينا في ان تحولا في السياسة الأمريكية، بات أكثر وضوحًا من خلال الاتفاق مع الحوثيين. فهذه الخطوة تُجسد تصعيدًا عمليًا للنهج الذي بدأ يظهر منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، والذي يعيد ترتيب أولويات الشراكة مع إسرائيل وفقًا لاعتبارات المصالح الأمريكية البراغماتية.
وعلى الصعيد الداخلي الإسرائيلي، يُحتمل أن يتسبب هذا الاتفاق في مزيد من الضغوط على نتنياهو، حيث يواجه انتقادات متزايدة من خصومه بسبب فشله في تحقيق إنجازات دبلوماسية وأمنية ملموسة، خاصة في ظل التوترات المستمرة في غزة والتهديدات الإيرانية. حيث قد يعطي هذا الاتفاق مع خصومه ذريعة جديدة للتشكيك في نفوذه داخل واشنطن، مما قد يضطره إما إلى التكيف مع السياسة الأمريكية الجديدة، ما قد يضعف صورته داخليًا، أو إلى الدخول في صدام معها، ما قد يعجّل بعزلته الدولية ويُسرّع من نهاية مسيرته السياسية.
خلاصة القول، انه بقدر ما يمكن اعتبار الاتفاق مع الحوثيين مؤشرا اضافيا على تغير في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، حيث يُظهر تزايد الاهتمام بالمصالح الأمريكية المباشرة على حساب التحالفات التقليدية، بما في ذلك مع إسرائيل. فانه بنفس القدر يشير الى ضرورة عدم الحكم المبكر تحديد ما إذا كان هذا التحول سيصبح تحولًا استراتيجيًا طويل الأمد، أم أنه مجرد تغيير في الأولويات يتماشى مع سياسة ترامب “أمريكا أولًا”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. هاني الروسان