المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    أحمد الشرع.. رجل الموساد في سورية

    هناك تشابه مريب، بل تطابق مذهل، بين قصة أحمد...

    غَزَّةُ… قَسِيمُ الجَنَّةِ وَالنَّار

    أَحَسِبَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُتْرَكُوا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِذْلَانٍ...

    الإقلاع عن السكر يُحدث معجزة في جسمك.. 8 فوائد صحية مذهلة ستجعلك تتخلى عنه اليوم

    تناول السكر المضاف بات يشكل خطرًا صحيًا كبيرًا على...

    في زمن الجوع: كيف حوّلت إسرائيل الغذاء إلى سلاحًا لتصفية الوجود الفلسطيني في غزة؟

    منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، لم تقتصر جرائم الاحتلال الإسرائيلي على القصف المكثف والدمار الشامل الذي طال البنية التحتية وحصد آلاف الأرواح، بل تعدتها إلى سياسة أكثر فظاظة وأشد تأثيرًا، تمثلت في استخدام الجوع كسلاح استراتيجي في حربها ضد الشعب الفلسطيني.

    تحولت غزة إلى مختبر بشري يُختبر فيه مدى قدرة الإنسان على الصمود دون طعام أو ماء أو دواء، ضمن سياسة ممنهجة تستهدف ليس فقط الإبادة الجسدية، بل أيضًا إنهاء الوجود الإنساني والديموغرافي للسكان الفلسطينيين.

    لم يعد الحديث عن الحصار الإسرائيلي على غزة مجرد قيد مؤقت أو نتيجة طارئة للصراع، بل هو استراتيجية مدروسة وممارسة يومية تهدف إلى تجويع السكان وإخضاعهم بالقوة عبر المجاعة البطيئة. منذ الأيام الأولى للعدوان، فرض الكيان الإسرائيلي إغلاقًا شاملاً على المعابر، وقيّد بشكل متعمد دخول المساعدات الإنسانية من غذاء وماء ودواء، وهو ما حول الحياة في القطاع إلى كابوسٍ لا يُطاق، فيما تُرك الناس يتقاتلون على الفتات ويبحثون بين الركام عن أي شيء يمكن أن يُشبِع جوعهم.

    على الرغم من النداءات المتكررة التي تطلقها الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية، إلا أن إسرائيل واصلت سياسة “التنقيط” في إيصال المساعدات، حيث سمحت بدخول كميات زهيدة عبر نقاط تفتيش خاضعة لرقابتها المشددة، مما جعل هذه المساعدات إما غير كافية أو غير صالحة للاستعمال بعد تلفها خلال عمليات التفتيش الطويلة والعشوائية. وتؤكد التقديرات أن أقل من 15% من الاحتياجات الأساسية تُلبى، بينما تزداد حاجة السكان إلى الغذاء والماء مع تصاعد العنف ودمار البنية التحتية.

    لا تُعد سياسة التجويع صدفة أو نتاجًا عرضيًا للحرب، بل هي خيار سياسي واضح أعلنته شخصيات إسرائيلية رسمية في أكثر من مناسبة. تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت في أكتوبر الماضي، حين أعلن أن “لا كهرباء ولا ماء ولا طعام سيدخل إلى غزة”، لم يكن سوى ترجمة رسمية لاستراتيجية تتبناها الدولة العميقة في إسرائيل، وتهدف إلى سحق الروح الوطنية للفلسطينيين ودفعهم نحو الاستسلام أو الرحيل ، تحت ضغوط لا تطاق من الجوع والخوف والموت.

    كشفت تسريبات ووثائق صحفية أمريكية، بما في ذلك تقارير لصحيفتي “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز”، أن المسؤولين الإسرائيليين ناقشوا في اجتماعات مغلقة إمكانية استخدام سياسة التجويع كوسيلة للضغط على المقاومة الفلسطينية، ودفع السكان للانقلاب على الفصائل المسلحة، وهو ما يندرج تحت مفهوم العقاب الجماعي ، المجرَّم بموجب اتفاقيات جنيف.

    بحسب إحصائيات برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن جميع سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليوني نسمة يعيشون في حالة انعدام تام للأمن الغذائي ، وهي واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية في العالم. وأشارت تقديرات المنظمات الإنسانية إلى أن أكثر من نصف مليون فلسطيني يعانون من مجاعة حقيقية ، وأن معدلات الوفاة بسبب الجوع، خصوصًا بين الأطفال وكبار السن، في تصاعد مستمر.

    صور مرعبة نشرتها وسائل الإعلام العالمية، مثل مشاهد الأمهات اللواتي يُقدمن للماء المغلي مع الأعشاب كوجبة رئيسية لأطفالهن، تُظهر حجم المأساة الإنسانية التي يُراد لها أن تستمر. كما سجلت منظمات دولية حالات وفاة لرضع بسبب نقص التغذية والرعاية الصحية، في وقت لا يزال فيه المجتمع الدولي يكتفي بالبيانات الشكلية والنداءات الإنسانية غير الملزمة.

    لم تتوقف سياسة التجويع عند حد منع دخول المساعدات، بل تجاوزتها إلى استهداف مباشر للفريق البشري والإنساني الذي يحاول إنقاذ الأرواح، ففي أبريل 2024، قتلت القوات الإسرائيلية سبعة من موظفي منظمة “وورلد سنترال كيتشن” أثناء توزيعهم مساعدات غذائية، في جريمة هزت الرأي العام العالمي، لكنها لم تُغيّر شيئًا في السياسة الإسرائيلية. واستمرت عمليات استهداف المستودعات الغذائية، وتم تدمير آلاف الأطنان من المواد الغذائية والأدوية، كما استُهدفت جموع المدنيين الذين حاولوا الوصول إلى شاحنات المساعدات في أماكن مثل “الكوستل” و”نقطة نيتساريم”، في مجازر راح ضحيتها العشرات.

    في ظل هذا الواقع المرير، يبدو أن العالم قد اختنق بصمت مطبق، فالدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لم تمارس الضغط الحقيقي لإيقاف هذه الكارثة الإنسانية، بل ذهبت بعض الدول الأوروبية إلى أبعد من ذلك، وقررت وقف تمويل وكالة الأونروا بذرائع باطلة، رغم دور الوكالة المحوري في إبقاء شرارة الحياة مشتعلة في قطاع منهار تمامًا.

    تحذيرات أكثر من 30 منظمة دولية من وقوع مجاعة شاملة وانهيار كامل للبنية الصحية في قطاع غزة، تشير إلى أن ما يجري ليس مجرد حرب، بل جريمة إبادة منظمة تدار بحسابات سياسية وعسكرية دقيقة . وفقًا لهذه الاستراتيجية، تسعى إسرائيل إلى تغيير التركيبة السكانية في غزة ، عبر دفع السكان إلى الهجرة القسرية، خصوصًا نحو سيناء المصرية، ضمن ما يُعرف بـ”التخلص من السكان” كحل نهائي للقضية الفلسطينية.

    التجويع إذًا ليس هدفًا عابرًا، بل هو وسيلة للهيمنة، وجزء من خطة أكبر تهدف إلى إضعاف البنية الاجتماعية والاقتصادية لقطاع غزة ، وتحويله إلى منطقة لا تصلح للحياة، بهدف إحداث تغييرات ديمغرافية طويلة الأمد. كما يُستخدم كوسيلة لخلق ضغط داخلي على الفصائل الفلسطينية، خاصة حركة حماس، من خلال زعزعة استقرار السكان ودفعهم نحو التمرد على السلطة المحلية، وهو نهج سبق أن اختبرته إسرائيل في أماكن أخرى مثل مخيم جنين، لكنه يُطبَّق الآن بحجم وحشي غير مسبوق.

    ما يجري في قطاع غزة اليوم يتجاوز كل تعريف للأزمة الإنسانية، إنه مشروع تجويع منظم يُنفذ تحت سمع وبصر العالم ، وهو يستدعي رد فعل حقيقي وفاعل من المجتمع الدولي ومن الدول العربية والإسلامية، لا يقتصر على البيانات والاستنكار، بل يجب أن يشمل فتح ممرات آمنة فورية للمساعدات، ومعاقبة الكيان الإسرائيلي اقتصاديًّا وسياسيًّا، وتقديم قادة الاحتلال إلى العدالة أمام المحاكم الدولية.

    المجاعة في غزة ليست قدرًا محتومًا، بل سياسة موجهة بعناية، وهي تنتظر من يقف أمامها قبل أن تتحول إلى صفحة سوداء جديدة في تاريخ البشرية، يُكتب فيها أن العالم كان حاضرًا عندما مات أطفال غزة جوعًا، لكنه لم يحرك ساكناً.

    spot_imgspot_img