إسرائيل كانت تراهن على حملة خاطفة تُربك الخصم الإيراني وتُعيد ترتيب الإقليم، لكنها سرعان ما اصطدمت بسقف قدرتها على الاستمرار. الضربات الأولى، برغم ضراوتها، ظهرت كأنها ذروةٌ مبكرة لحرب قصيرة النفس. حين تطلب تل أبيب من واشنطن التدخل فورًا، فإن ذلك لم يكن طلب دعم استراتيجي، بقدر ما ظهر كنداء استغاثة من فشل غير معلن.
المشاركة الأميركية لم تحمل علامات الحرب الممتدة، لذلك جاءت كاستجابة اضطرارية لضغوط داخلية وخارجية. دونالد ترامب، الذي يعرف جيدًا وزن الناخب أكثر من وزن الطائرات، اختار تدخلًا محدودًا، محسوب الأثر، أقرب إلى تصريف ضغط منه إلى تأسيس مواجهة مفتوحة. الضربات الأميركية كانت تعبيرًا عن التزامٍ لا يريد أن يتحوّل إلى تورّط. أما في طهران، فكان المشهد مختلفًا.
تلقّت الضربة الأولى بصمت مديد، لا ارتباك فيه ولا ارتجال. بدا أن تأخر الرد ليس نتيجة إرباك، بل اختيار تكتيكي محسوب. حين جاء الرد، وسّع نطاقه ليطال المنشآت الاقتصادية ومصادر القلق الداخلي. كانت طائرات إيران المسيّرة تحمل رسائل متزامنة: نحن هنا، ولم ننكسر. في الجبهة الإسرائيلية، ظهرت علامات التوتر بوضوح. الرقابة الصارمة على الإعلام، محاولة منع المغادرة الجماعية، تصريحات غريبة لوزراء، وحالة ارتباك ميداني أظهرت أن الداخل أكثر تأثرًا مما يُعلَن.
طهران رفعت منسوب التوتّر إلى حدٍّ جعل الخصم يعيد النظر في مشهد الصمود والصورة. وحين وصلت الأمور إلى مرحلة الوساطات، بدت إسرائيل الطرف المتضعضع. ما تسرّب عن تدخل قطر لم يكن مجرّد تفصيل دبلوماسي، بل دليل على أن القرار خرج من يد القيادة العسكرية الإسرائيلية.
ترامب حاول، في لحظة ختامية، تقديم عرض لإيران بأن تعلن وقف النار قبل إسرائيل، في محاولة لمنح نتنياهو انتصارًا وهميًا، لكن طهران لم تُساير هذا السيناريو. الخطاب لم يعد يُضبط من تل أبيب.
النتائج الأولية تشير إلى تغيّر في قواعد الاشتباك. النظام الإيراني، الذي وُضِع تحت ضغط هائل، بقي صامدًا وأعاد توزيع أوراقه. الداخل الإيراني لم يُظهر رفضًا، بل التحم مع الخطاب الرسمي في مشهد نادر. وعلى مستوى الإقليم، خرجت إيران بموقع جديد لا يمكن تجاهله، بعدما أثبتت أنها ليست لاعبًا يمكن عزله أو تطويقه.
في مقابل ذلك، واجهت إسرائيل لحظة اضطرار للتراجع من دون تحقيق الأهداف التي دفعتها إلى الهجوم أصلًا. ما حصل أيضًا لا يُفهم فقط من منظور النار والسلاح، بل من زاوية الاستخبارات. كشفت إيران خلال المواجهة شبكات خفية، مسارات تهريب، مواقع مشبوهة، وآليات عمل داخل العمق.
بدا وكأن الضربة فتحت نافذة استخباراتية أوسع من المتوقع، واستُخدمت المواجهة لتفكيك شبكات كامنة. الانتصار يتجاوز عملية القياس بكمية النار، فهو اولاً واخيراً سينتقل إلى احصاء المكتسبات السياسية. إيران، بهذه الجولة، غيّرت موقعها، وفرضت على الجميع مراجعة معادلات الردع، الحسابات الإقليمية، وحتى معنى الاشتباك ذاته. الهدوء الذي سيلي وقف إطلاق النار لا يعني نهاية الصراع، بل بداية فصل جديد، عنوانه: من يستطيع الصمود حين يظن الآخر أن اللعبة انتهت، هو من يكتب الصفحة التالية.