ليست قاعدة العديد الأمريكية في قطر مجرد منشأة عسكرية تقليدية، بل هي رأس حربة لمشاريع الهيمنة والتفتيت وإعادة رسم خرائط المنطقة بما يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب. فهي لا تقتصر على كونها موقعًا لإقلاع الطائرات أو إدارة العمليات، بل تمثل حاجزًا حقيقيًا أمام أي مشروع تحرري أو توجه نحو وحدة إسلامية. بما تحويه من تقنيات تجسسية متقدمة، ومنظومات هجومية متطورة، أصبحت القاعدة أشبه بمحطة تحكم إقليمي لإدارة الحروب وإشعال الفتن، لا مجرد مطار عسكري على أرضٍ عربية.
تعود بدايات القاعدة إلى منتصف التسعينيات، حين بادرت قطر، بدافع من تحالفاتها الأمنية مع واشنطن، إلى تمويل بنائها بأكثر من مليار دولار، في وقتٍ كانت فيه الولايات المتحدة تبحث عن بديل استراتيجي لقاعدتها في السعودية، عقب تصاعد الغضب الشعبي ضد وجود قوات أجنبية في “أرض الحرمين”. ومع حلول عام 2002م، تحولت قاعدة العديد إلى أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، ومركز القيادة المتقدم للقيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، لتصبح القلب النابض للعمليات العسكرية الأمريكية في العالم الإسلامي.
ومنذ تأسيسها، شاركت القاعدة في إدارة أبرز الحروب الأمريكية في المنطقة. فقد كانت المنصة الأساسية لغزو أفغانستان عام 2001م، حيث انطلقت منها الطائرات الأمريكية لقصف كابل وقندهار، ومن خلالها تم تنسيق العمليات الاستخباراتية في جنوب آسيا. ثم لعبت دورًا رئيسيًا في غزو العراق عام 2003م، حيث كانت غرفة عمليات متكاملة للقيادة والسيطرة، تدير كل ما يتعلق بالعمليات الجوية والبرية، بما في ذلك الإمداد والتموين وتوزيع الأهداف.
واستمرت القاعدة في أداء هذا الدور في الحروب غير التقليدية، إذ أُديرت منها العمليات الجوية في اليمن وسورية والعراق، بما يشمل توجيه الضربات بطائرات بدون طيار، وتوفير الغطاء الاستخباراتي للتحركات الأمريكية والمتحالفة معها، ضد قوى توصف بأنها “معادية للمصالح الغربية”.
لكن الأخطر من كل ذلك هو الدور الذي تلعبه القاعدة في دعم العدوان الصهيوني على فلسطين، وتحديدًا في حرب غزة الكبرى التي اندلعت في أكتوبر 2023م. فرغم تموضع القاعدة في دولة تدّعي دعم القضية الفلسطينية، فإنها كانت في الواقع جزءًا من غرفة عمليات إقليمية لإدارة الحرب على القطاع. تقارير متعددة أكدت أن القاعدة شهدت نشاطًا مكثفًا للطائرات الأمريكية المسيّرة وطائرات الإنذار المبكر، التي شاركت في رصد تحركات فصائل المقاومة في غزة ولبنان وسورية، وجمعت معلومات تم تسليمها بشكل مباشر للكيان الصهيوني.
كما استخدمت القاعدة لتنسيق الدعم العسكري الأمريكي المباشر لـ”إسرائيل”، بما في ذلك عمليات تزويدها بالذخائر الدقيقة، والصواريخ الاعتراضية، والتقنيات المتطورة الخاصة بأنظمة القبة الحديدية و”حيتس” و”مقلاع داود”. بل إن الأنظمة الدفاعية الأمريكية المنتشرة في القاعدة – مثل “باتريوت” و”ثاد” – ساهمت بشكل مباشر في تعزيز الغطاء الجوي الإسرائيلي، خلال مواجهة الردود الصاروخية من اليمن ولبنان وإيران.
وقد ظهرت خطورة القاعدة بشكل صارخ حين قررت واشنطن تنفيذ ضربات عسكرية ضد إيران انطلاقًا منها، ما استدعى ردًا إيرانيًا محسوبًا. وبينما نسّقت طهران مسبقًا مع قطر لتجنّب التصعيد، تعاملت الدوحة مع الرد الإيراني كأنه اعتداء على سيادتها، متجاهلة أن أراضيها تُستخدم فعليًا كمنصة لشنّ عدوان دائم على الشعوب الإسلامية، وأن القاعدة التي تموّلها وتستضيفها تمثل خطرًا وجوديًا على إيران، وغزة، وسائر شعوب المنطقة.
إن أخطر ما في قاعدة العديد ليس فقط ما يصدر عنها من طائرات أو أوامر عسكرية، بل ما ترمز إليه: تحوّل أرض عربية إلى ذراع أمريكية نشطة في قمع حركات التحرر، وتكريس الهيمنة الصهيونية، وتثبيت التبعية السياسية والعسكرية لأنظمة تعيش تحت وهم الحماية الغربية. ومن المفارقة أن هذه القاعدة التي تساهم في قتل الفلسطينيين، تستظل بالشرعية القطرية التي تدّعي احتضان القضية الفلسطينية، وتستثمر فيها سياسيًا.
والنتيجة أن وجود قاعدة العديد، بكل ما تحمله من رمزية وسيادة أجنبية، هو تهديد حقيقي لأمن الأمة واستقلال قرارها. إنها ليست فقط منشأة عسكرية، بل قاعدة صراع حضاري بين أمة تريد أن تتحرر، وقوة غربية تسعى لإبقائها ممزقة وضعيفة، تحت ظلال طائرات لا ترحم، وقواعد لا ترحل.