لا يخوضُ العدو صراعًا عسكريًا، بل حربًا ضد ” الحدث الصعب”، ضد الألفاظ، ضد المعنى الذي يهرب منه، ويصير حجرًا يصيبه في المقتل.
حدث صعب”. العدو لا يحب التوسع في المفهوم. يحاول التوسع في الأرض. “حدثٌ صعب” بحسب ما يصدر عن جيش الاحتلال.. ثم يبلعون ألسنتهم. تتدلى العبارة من فم ناطقٍ فقدَ صوته.
“حدثٌ صعب”.. لا يقولون ماذا جرى. يبلعون ما جرى. “حدث صعب”. يقولها الناطق باسم جيش الاحتلال وهو يتلمّس ندبةً في خاصرته ويتلفّت كمن داهمه شبحٌ يحمل “ياسينَه”على كتفيه.
“حدث صعب”؟ نعم لأن أحد أنفاق غزة بلغت حممه السطح فجأة. صار برجًا من نارٍ تُرتل “الله أكبر”. “حدثٌ صعب” حين تنطلق كتائب القسام كأن للحوائط أجنحة، وللمقاومين دروعاً.
“حدثٌ صعب” حين يتحوّل الزقاق إلى كمين والحجر إلى صوت والظلّ إلى فخٍّ محشوٍّ باليقين.
العدو لا يقول ماذا حدث. ما حدث أكبر من اللغة. أكبر من رقابة هيئة الأركان. أكبر من تماسك وجه الجنرال على الشاشة.
يقولون: “فقدنا الاتصال بوحدة النخبة”. نحن نعلم أن الوحدة قد ذابت في أرض الشجاعية. “حدثٌ صعب في بيت حانون” لا يشرحون كيف عادوا من دون جنود النخبة. هم يذيعون : “حدثٌ صعب” ونحن نقرأ الخبر حفرة في الجدار خلَّفها شهاب أو رمشة قنّاص صامت حيَّر طائرات الاستطلاع.
في غزة الصمتُ يُقاتل. العتمةُ تُنجب أبطالاً من دخان. المقاومةُ لا تخرجُ من الثكنات. تخرج من الأحذية المهترئة، من حفاة الأقدام، من خرقةِ كوفية، من نظرةٍ حاسمة خلف جدار.
هم يُخفون عددَ القتلى. نحن نعرفه لا لأننا نعدُّ الجثث، بل لأننا نعدّ الذباب الأزرق فوق جيفِ معنوياتهم. نراهم يتحاشون الكاميرا. وجوههم تقول: لم نُولد لندخل غزة… بل لنهرب منها.
“حدثٌ صعب”، عبارةٌ تُشبه شبه رجلٍ يحاولُ خنقَ زلزالٍ بمنديلٍ ورقيّ أو جنرالًا يبلع حذاءه حين يضيع رتلُه بين أزقة حي التفاح. هم لا يُفصِحون لأن الإفصاح فضيحة، ولأن اعترافهم يعني أن غزة المحاصَرة المنهَكة والمُدللة بالقنابل لا تنكسر.
غزة تُجيد النهوض كأنها ربيعٌ خشن. نحن لا نطلب منهم أن يعترفوا. فهم لا يعترفون بالهزيمة لكننا نعلم أن كل “حدث صعب” عندهم هو نصر فلسطيني هادئ. هو يدُ مقاوم تشدّ زنادها من دون صراخ. هو شهيدٌ على باب نفقٍ يُسلّم على الموت كمن يسلّم على زميلٍ قديم.
“حدثٌ صعب”؟ بل قل: انكسر البرج من الداخل. انهارَ وهمُ التفوّق تحت صرخة فتى من رفح. ضاعت دبّاباتهم كأن الرمال قرّرت جعلكتَها. “حدثٌ صعب”؟ قل ما شئت لكننا نسمّي الأشياء بأسمائها: بطولات لا تُوثّقها كاميرات العالم، لكنّ الله يراها، وغزة تحفظها وكلما زاد التكتّم علمنا أن الضربةَ كانت أقوى، وأن الرصاصة ذكية بما يكفي لتُربك خارطةً كاملة.
المقاومة لا تحتاج الى اعترافات العدو. تكفيها عبارة ” حدث صعب”. إنكارهم هو أعظم برهان. فامضِ يا قسام واخترع لهم “أحداثًا” أصعب وأصعب حتى لا يجدوا في اللغة ما يصرّحون به سوى الصمت.
حدث صعب؟ بل هو الحكاية التي لا تنتهي. وكلما ازدادت الضغوط على اللسان المحتل، ينبئنا ” الحدث الصعب” عن ساحة معركة.
لا يخوضُ العدو صراعًا عسكريًا، بل حربًا ضد ” الحدث الصعب”، ضد الألفاظ، ضد المعنى الذي يهرب منه، ويصير حجرًا يصيبه في المقتل.
حين يبزغُ الفجر على الشهداء وتشرق الشمس على الأنقاض، يختفون هم مع ” الحدث الصعب”، بينما ترتسم في أفق فلسطين صورة المقاوم الذي يسحق التكتّم تحت قدميه، ويظل يقاوم بالكلمة التي لا يكتبها أحد.
“حدث صعب”؟ لا يهم، فالفلسطينيون يعرفون كيف يسهّلون كتابة التاريخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روني ألفا