حدثني صديق لي عن حادثة حصلت معه في أواخر ثمانينات القرن الماضي، داخل أحد المحال التجارية في مدينة صيدا، حين فوجئ بأحد الزبائن يخاطب صاحب المحل بلكنته السورية، قائلاً: “إنّ سوريا أكبر من لبنان بأضعاف، والكبير بيبلع الصغير”… وبين صمت الحاضرين ودهشتهم، خرج حاملاً مشترياته إلى حيث ينتظره سائق “البيجو”…في ذلك الحين كانت الصراعات الداخلية الدامية تغلب على المشهد اللبناني العام، حين كانت “تعشعش” في الأذهان أيديولوجيات مختلفة منها الحالمين بالأمة العربية الواحدة، إلى العاملين من أجل الأممية الاشتراكية، إلى المؤمنين بسوريا الكبرى، إلى اصحاب “الغِمَامة” الباحثين عن دولة لبنان الصغير دون الكبير، إلى المطالبين بدولة اسلامية في وطن الـ10452.
لتتجمد هذه الايديولوجيات كافة مع دخول اتفاق “الطائف” حيّز التنفيذ، وبسبب عدم تطبيقه بالكامل يجعل من مسألة إجراء تعديلات عليه اليوم أمراً لا مفر منه، ذلك بما يتناسب مع التطورات الإقليمية والدولية، وربطاً بالإصلاحات الإدارية والمالية… والحوافز السياسية الممكن تقديمها ل”حزب الله” مقابل التنازل عن السلاح، وحتماً ليس قبل التوافق على خطة دفاع استراتيجية واضحة ومعلنة تحت إشراف الجيش اللبناني للاستفادة من قدرات المقاومة وعتادها العسكري بدلاً من تدميره على غرار ما جرى في جنوب الليطاني.
ذلك كله درءاً للتهديد الاسرائيلي التاريخي ولفوضى الميليشيات التكفيرية المنتشرة في سورية، التي أصبحت تُثير قلقاً لبنانياً بسبب أحداث السويداء الأخيرة، وعلى ضوء ما يتم تداوله من مشروع يجري الإعداد له، وهو “مقايضة الحكومة السورية للجولان المحتل ذات الغالبية الدرزية بالشمال اللبناني ذات الغالبية المسلمة” مع ما يحمل في طياته من عمليات تهجير واسعة النطاق لسكان البقاع، بالتزامن مع إخضاع الجنوب اللبناني للسيطرة الاسرائيلية بالمطلق. وبغض النظر عن صحة هذا الأمر من عدمه، فإن إطلاق هذه الأفكار تعود أسبابها أولاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلن عنه رئيس حكومة العدو ضمناً تقسيم سوريا وثانياً للأطماع الجيوسياسية السورية تجاه لبنان.
هذه المطامع التي ورثها النظام الجديد عن سلفه، زادتها زخماً “بروباغندا” العودة ببلاد الشام إلى “الحكم الأموي”، مما يعني عودة الهيمنة على دول الجوار ومنهم لبنان، كونه يغمز من قناة التقسيمات الإدارية والعسكرية التي كانت سائدة في زمن الخلفاء الأمويين. حين قسّموا سوريا الكبرى إلى خمسة “أجناد” رئيسية: جُند حمص، جُند الأردن، جُند فلسطين، جُند قنسرين وجُند دمشق التي كانت أكبرهم حيث ضمت معظم سوريا والأردن وشمال ووسط لبنان مع ساحله من طرابلس إلى صيدا.
قد تُعتبر هذه النظرية لدى البعض مستعصية في هذه الأيام، لكن المشروع الصهيوني التقسيمي للمنطقة ومجريات الأحداث الإقليمية عامة والداخلية السورية خاصة، غير مشجعة ومعقدة للغاية. وما أضاف عليها جدلاً أوسع وتوتراً أكبر، هو تصريح الموفد الأميركي إلى المنطقة “توم براك”، حول “عودة لبنان إلى بلاد الشام” مما منحه صفة مشروع أمريكي مُخطط له، فهل تعمدها “توم”؟ وهل قصدها كرسالة ذات وجهين حول مصير لبنان الحتمي سيّان تخلى عن سلاحه أم لم يتخلى عنه؟ وما يُثير الاستغراب هو عدم صدور أي تصريح رسمي سوري يؤكد أو ينفي مثل هذه النوايا مكتفياً بمصادر إعلامية.
لكن ما هو غير مستغرب أنه جاء منذراً ومعبراً عن نوايا هذا النظام الذي لا يزال يعمل بروح الإسلام المتطرف، ويعتمد على ميليشيات تكفيرية محلية وأجنبية، لا يسيطر عليها جميعًا، مما يضع مسار العلاقات السورية اللبنانية على حافة الهاوية، وذلك بسبب:
الصمت المثير للريبة لدى معظم دول العالم على المجازر التي أُرتكبها النظام، منذ توليه السلطة في دمشق، بحق الأقليات الدينية في سوريا وتغطيته لتجاوزات الفصائل التكفيرية، عوضاً عن ضبطها، سواء بحق الدروز في جرمانا أو الشيعة في ريف حمص أو العلويين في الساحل السوري، وما الجريمة البيئية التي أدت إلى حرائق كبيرة في جبال العلويين سوى مخطط ممنهج لتدمير آخر ملاذ آمن لهم في الغابات، ناهيك عن فتنة السويداء. كل هذا سوف يُلقي بثقله على المشهد اللبناني القائم في الأساس على التعددية المذهبية والتعايش المشترك.
مظلة الأمان الأميركية التي رفعها “دونالد ترامب” فوق هذا النظام، وفرّت له فائضاً من القوة والسيطرة، أدت به إلى دفع عصاباته لمهاجمة السويداء بغطاء تركي تحت عنوان “توحيد سوريا”، وبرضى أمريكي مُفخخ إسرئيلياً, كون العدو يعلم علم اليقين أن دخول هذه الميليشيات إلى السويداء سيقابله رفضأً درزياً ومصحوباً بمجازر، وهذا ما يسعى إليه الإحتلال بغية تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، عبر إعطاء دروز سوريا ذريعة الانفصال عن “دمشق” وإعلان دولتهم في جبل العرب ومحيطه، وبالتالي تشكيل عازل جغرافي آمن بينها وبين العاصمة السورية، مع الإشارة إلى أن دروز فلسطين لن يكونوا بمأمن من عملية “ترانسفير” ينفذها الصهاينة نحوهذه الدولة الجديدة. كما يهدف العدو إلى تأديب النظام السوري الحالي بغية تصحيح مسار بندقيته تجاه الغرب (لبنان) بدلاً من الجنوب السوري.
تعيش سوريا الآن فوضى أمنية عارمة، جعل منها قاعدة لوجستية واسعة للميليشيات التكفيرية، مما يُسهّل عليهم عمليات تمويل خلاياهم الإرهابية إلى ما وراء الحدود، كما أن تقسيم سوريا إلى دويلات أدناها أربعة: كردية في الشمال، علوية في الساحل ودرزية في الجنوب وأموية في الوسط مع توغل إسرائيلي لاحتلال “محور داوود” الممتد على الحدود بين سوريا والأردن والعراق. هذا الأمرسيدفع حكماً بالدولة الأموية الجديدة القائمة في وسط سوريا وبموافقة أمريكية- إسرائيلية إلى التوجه غرباً لتأمين منفذ بحري في الشمال اللبناني للفصل بين لبنان وجبال العلويين على أن يقابله تصعيد إسرائيلي في الجنوب لحصار المقاومة.
من هنا تُطرح عدة أسئلة، هل يبدأ النظام السوري بتحريض بعض اللبنانيين على المطالبة بالإنضمام إلى سوريا،على غرار ما حصل عشية إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920؟…وهل يكون لغم الموقوفين السوريين توقيتاً للانفجار بين البلدين؟ أم أنهم سينتظرون اكتمال التوغل الإسرائيلي لتقسيم سوريا واحتلالها “لمحور داوود”؟
هذا “السيناريو” قد يظن البعض أن حدوثه يصب في مصلحته الاستراتيجية لا سيما الطامحين والطامعين بدولة “لبنان الصغير” المراهنين على تفكك الدولة، وهذا ما أكده أحد نواب الأمة: “لدينا 15 الف مقاتل من حزب القوات اللبنانية جاهزين للدفاع عن لبنان في حال غياب الدولة”.
وإذا راجعنا القاموس القواتي القديم لتفسير هذا التصريح، فإن هؤلاء المقاتلين “الجاهزين على صفر” هم في وضع انتظارنجاح المشروع الصهيوني للمنطقة وانهيار النظام اللبناني، ليستولوا على المنشآت الإدارية والأمنية والعسكرية اللبنانية من دون تحديد المدى الجغرافي لهذا الانتشار… إنه بصريح العبارة “تحضير مسبق للإنقلاب على الدولة عندما تدق الساعة في معراب”. فهل يكون رئيس حزب القوات اللبنانية شريكاً في عملية تقاسم لبنان الكبير بين “سوريا ” و”اسرائيل”؟ وهو القائل “فليحكم الأخوان”… والداعي إلى “إلقاء السلاح والاستسلام لاسرائيل”…
من هذا المنظار فإن تسليم السلاح على الطريقة الاسرائيلية ومن دون خطة دفاع في ظل التطورات الإقليمية لا سيما السورية منها، هو تواطؤ مشبوه لإزالة “دولة لبنان الكبير”، وحتى “الصغير” كما يتوهمه البعض، عن الخارطة الدولية.
ومهما حاول البعض التلطي خلف قرار حصر السلاح المُجمع عليه لبنانياً. فإن حصرية السلاح لا تُعفي المقاومة من الاندماج الاستراتيجي مع الجيش على طريقة ألوية الدفاع؟ ومن هو القائل أن حصرية السلاح أيضاً تُلغي حق المواطن في الدفاع عن أرضه؟ وإذا كانت نوايا الجميع سليمة في حماية لبنان الكبير، فليندمج كذلك مقاتلو القوات الخمسة عشر ألفاً استراتجياً مع الجيش اللبناني في الدفاع عن الوطن كل الوطن؟ بدل أن يبقوا غارقين في حلم السقوط الكبير للدولة اللبنانية….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ