تواجه “إسرائيل” عزلة أخلاقية على صعيد الرأي العام العالمي، وقانونية تتجلى في قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ومزيد من نزع الشرعية عن سلوكها في العالم.
في خطاب ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) عام 2017، قال: “ما لا تفرضه على الأرض، لا يُحسب لك في التاريخ”.
تعكس هذه العبارة رؤية “إسرائيل” التي ترتكز على مبدأ القوة والتوسع لتصبح لاحقاً جزءًا من فرض الحقائق على أرض الواقع وهي رؤية لطالما شكّلت السياسة التي ينتهجها الإسرائيليون، والتاريخ الذي يحاولون فرضه منذ تأسيس الكيان عام 1948.
في مجال العلاقات الدولية، تنطلق عبارة “ما لا تفرضه على أرض الواقع لا يُحسب لك في التاريخ” من المدرسة الواقعية حيث يؤكد مفكرون مثل هانز مورغنثاو أو نيكولو مكيافيللي أن القوة، المستمدة أساساً من القدرات والاستعداد لاستخدامها، هي المحدد النهائي لنتائج السياسة الدولية. وعليه، لكي يترك أي فاعل، سواء كان دولة أم غير دولة، بصمةً دائمةً في التاريخ، يجب أن يُشكل الأحداث على أرض الواقع بشكل واضح، وذلك من خلال القوة العسكرية، أو الإكراه الاقتصادي، أو الهيمنة السياسية.
ومع ذلك، فإن العديد من الدروس التاريخية، أسقطت هذه المقولة، وأعادت تعريف العلاقات الدولية عبر رؤية نقدية، وهو ما أثارته المدرسة البنائية التي اعتبرت أنه بالرغم من أهمية القدرات المادية والعسكرية وقدرتها على فرض مسار الأمور على الأرض، فإن السرد التاريخي ليس دائماً مجرد انعكاس للقوة الغاشمة، بل يتشكل من خلال الأفكار والمعايير والهويات المشتركة. على سبيل المثال، قد “تفرض” دولة إرادتها، ولكن إذا أدان المجتمع الدولي هذا الفعل على نطاق واسع باعتباره غير شرعي، فقد يكون إرثها التاريخي إرثًا منبوذًا لا منتصرًا، بغض النظر عن فعاليته المباشرة على أرض الواقع، وهو ما حصل لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. سقط نظام الفصل العنصري هناك، بالرغم من قدراته المادية والعسكرية وفرضه وقائع على الأرض، ولم يكتب التاريخ ما أراده مؤسسوه أن يكتبوه بالحديد والنار.
وبالعودة الى “إسرائيل”، تجسّد عبارة نتنياهو فلسفة “الحقائق على الأرض”، السياسة الإسرائيلية الحالية التي تهدف إلى ترسيخ وقائع يصعب تغييرها مستقبلاً، سواء من خلال إبادة الفلسطينيين وتهجير مَن تبقى منهم من غزة، وتوسيع سياسة الاستيطان وقضم الأراضي في الضفة الغربية، واحتلال أراضٍ عربية كما في سوريا ولبنان.
وتكرّس المجازر الإسرائيلية والحروب التي حصلت بعد الهجوم الذي شنّته حماس في 7 أكتوبر 2023 محاولة إسرائيلية لتشكيل النظام الإقليمي، إذ تسعى “إسرائيل” إلى” إعادة ترسيم قواعد الصراع، ورسم حدود جغرافية جديدة لا يمكن تجاوزها في أي تسوية مستقبلية.
لكن، بالرغم من قدرة “إسرائيل” على فرض وقائع جديدة على الأرض خلال عامي 2023- 2025، وبالرغم من توسعها المفرط في الأراضي العربية، إلا أن الأثمان المدفوعة لتلك القوة الغاشمة قد لا تؤدي إلى تقييم التاريخ لها كما يريد نتنياهو فعلاً.
فبالرغم من التأييد الأميركي الشامل، تواجه “إسرائيل” عزلة أخلاقية على صعيد الرأي العام العالمي، وقانونية تتجلى في قرارات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ومزيد من نزع الشرعية عن سلوكها في العالم، ومنها أوروبا.
أما في فلسطين، فبالرغم من الإبادة التي يقوم بها الإسرائيليون، ما زال الفلسطينيون يقاومون وما زالت أعمال المقاومة المسلحة تكبد الإسرائيليين خسائر في غزة. وفي الداخل الإسرائيلي، تشير التقارير إلى أن أكثر من 70% من الإسرائيليين لا يثقون بمستقبل “دولتهم”، وأن الهجرة التي حصلت خلال العامين الماضيين غير مسبوقة في تاريخ الكيان، وأن الاعتماد على “اقتصاد الحرب” سيؤدي لاحقاً إلى ركود تضخمي، وهجرة الكفاءات، وأن الانقسامات الداخلية وارتفاع التطرف اليهودي “التكفيري” سيؤديان إلى مشاكل داخلية ولن يكون بالإمكان الحفاظ على الاستقرار على المدى المتوسط والطويل.
وهكذا، تشكل عبارة نتنياهو انعكاساً لمدرسة سياسية تؤمن بأن “القوة تصنع التاريخ”، غير أن قراءة أعمق لواقع منطقة الشرق الأوسط تكشف أن الوقائع المفروضة، إذا لم تُدعَم بشرعية دولية وتوافق شعبي، قد تتحول إلى بؤر صراع دائم، ما يضعف قيمتها التاريخية على المدى الطويل.
لا شكّ في أن هذه الفترة التاريخية، تشكّل مرحلة من مراحل السيطرة الإسرائيلية على الأراضي العربية، ولكن التاريخ لا يُقاس فقط بالقوة القهرية المادية، فكم من حضارة انقرضت بعدما توسعت وفرضت سيطرتها بالغزو والحديد والنار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ