لم تتوقف الحرب ضد الجمهورية الإسلامية منذ قيامها، وإن بدت أحيانًا بلا جيوش ولا طائرات. فصحيح أن العدوان العسكري المباشر على إيران لم يدم أكثر من أسبوعين، إلا أن طهران تعيش حالة استنزاف أمني وسياسي واقتصادي لا تنفك تتجدد بأشكال متعددة، من هجمات إرهابية منظمة، إلى أعمال تخريب في الداخل، مرورًا بحصار اقتصادي خانق، وصولًا إلى حملة إعلامية دائمة لتشويه الدولة والشعب.
الاعتداءات التي طالت الداخل الإيراني في السنوات الأخيرة، لم تكن حوادث معزولة، بل رسائل مدروسة من محور لا يخفي عداءه للجمهورية الإسلامية، تقوده الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وتُسهم فيه أدوات خليجية بفعالية متزايدة. فقد اغتيل العالم النووي محسن فخري زاده عام 2020 في عملية معقدة نُفذت بتقنية متقدمة، وكشفت التحقيقات ضلوع الموساد الإسرائيلي فيها، لكن اللافت أن العملية استندت إلى بنية تجسسية محلية مكّنت العدو من التغلغل في العمق الإيراني. كذلك، تعرضت منشأة نطنز النووية لأكثر من تفجير داخلي وتخريب إلكتروني، كما في عملية “Stuxnet” الشهيرة التي خططت لها أجهزة استخبارات غربية، ونُفذت عبر أدوات نشطت من دول الجوار، وفي طليعتها بعض دول الخليج.
هذه الحرب غير التقليدية، وإن اتخذت بعدًا أمنيًا، فإنها تستند إلى أرضية إعلامية وسياسية شُيِّدت بعناية منذ سنوات، عبر قنوات ومنصات خليجية بات شغلها الشاغل هو شيطنة إيران وشعبها ونظامها السياسي. فلا يكاد يمرّ يوم دون تحريض طائفي أو عنصري ضد الجمهورية الإسلامية، ولا تخلو نشراتهم من دعوات لتقسيم إيران على أسس عرقية، وتشجيع حركات التمرّد الكردية أو البلوشية. بل إن بعض القنوات، مثل “إيران إنترناشيونال”، التي تبث من الخارج، قد ثبت تمويلها المباشر من جهات سعودية، وتورطها في التحريض على أعمال عنف وفوضى داخل إيران.
وإذا ما عدنا إلى البدايات، فإن عداء الأنظمة الخليجية لإيران ليس طارئًا ولا وليد اللحظة، بل يعود إلى فجر انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، حين شعرت تلك الأنظمة بأن نموذج الجمهورية الإسلامية، القائم على السيادة والاستقلال والرفض القاطع للهيمنة الأمريكية، يشكل تهديدًا وجوديًا لها. تلك الأنظمة التي كانت خاضعة للشاه قبل الثورة، والذي رأى في ملوك الخليج مجرد توابع له، لم تُدرِك أن سقوطه كان فرصة لتحررها الحقيقي. لكنها، بدافع التبعية التاريخية والخوف من التجربة الإيرانية، اختارت أن تعادي الثورة بدل أن تتقارب معها.
لقد دعمت السعودية والكويت وغيرهما حرب صدام حسين ضد إيران بين عامي 1980 و1988، بتمويل تجاوز 75 مليار دولار، في محاولة لإسقاط الجمهورية الإسلامية قبل أن يشتد عودها ثم، ومع سقوط بغداد عام 2003، تحولت هذه الأنظمة تدريجيًا إلى حليف علني لـ”إسرائيل”، وبدأ خطابها الرسمي يعتبر إيران “الخطر الأكبر”، بل العدو الأول، لا الكيان الصهيوني.
لكن في مقابل كل ذلك، التزمت طهران بسياسة ضبط النفس، ولم تُبادر إلى الرد بالمثل. لم تموّل اضطرابات في الداخل الخليجي، رغم قدرتها على ذلك، ولم تشن حملات إعلامية موازية، ولم تستهدف المنشآت النفطية أو القواعد الأمريكية المنتشرة في الخليج، إلا نادرًا وفي ظروف اضطرارية. حتى عندما كانت الإمارات تقصف مواقع حلفائها في اليمن، كانت إيران تحجم عن الرد المباشر، مراهنة على استقرار إقليمي لا تريده أن ينهار.
غير أن هذا الصبر لم يُفسر حُسن نية، بل فُهم ضعفًا. فازداد التآمر، وتجرّأت تلك الأنظمة على تحويل أراضيها إلى منصات للتجسس الصهيوني، وممرات للطائرات المسيّرة، كما اعترف بذلك قادة كبار في الحرس الثوري، وعلى رأسهم اللواء حسين سلامي. وفي كل مرة كانت إيران تتغاضى، كانت المؤامرات تُحاك على أوسع نطاق.
لقد أثبتت التجربة أن هذه الأنظمة لا تفهم لغة الاحترام، ولا تردعها النوايا الحسنة، ولا تُقدّر الصبر أو الصمت. بل إن الضربات التي كانت تردعها حقًا هي تلك التي تحمل طابع القوة والمواجهة المباشرة. فعندما ردت إيران على اغتيال الفريق قاسم سليماني بقصف قاعدة “عين الأسد”، اضطرت أمريكا إلى التراجع، بل وعجزت عن الرد. وعندما سمحت طهران لحلفائها في اليمن باستهداف منشآت سعودية وإماراتية، تراجعت تلك الدول خطوة إلى الوراء، وسعت إلى مفاوضات لم تكن تحلم بها.
من هنا، فإن مواصلة إيران لسياسة الصبر دون ردع حاسم قد تكون مكلفة على المدى البعيد. لأن السكوت على العدوان لا يُوقفه، بل يُغري المعتدي بالمزيد. وإذا لم تبادر الجمهورية الإسلامية إلى إعادة التوازن عبر سياسة التعامل بالمثل، فإن أمنها الداخلي سيبقى عرضة للاهتزاز، وسيبقى العدو يسرح ويمرح في حدودها وأعماقها.
إن الرد لا يعني العدوان، بل الدفاع عن النفس. ولا يعني الفوضى، بل فرض معادلة احترام متبادل. وكما قال الإمام علي عليه السلام: “ردّ الحجر من حيث جاء، فإن الشر لا يردعه إلا الشر”.
ولعل هذا القول هو الدرس الذي آن لإيران أن تضعه موضع التطبيق، بعد أن استُنفدت كل أشكال النُبل السياسي.