بين ركام البيوت ومخيمات النزوح الخاوية من كل مقومات الحياة تتجلى المأساة في أقسى صورها حيث لم يعد الجوع في غزة أزمة طارئة بل واقع يومي يُدار بعناية ضمن سياسة ممنهجة تستخدم التجويع كسلاح لترويض ما لم تخضعه آلة الحرب
المجاعة لم تعد شبحا يلوح في الأفق بل تحوّلت إلى جزء من تفاصيل الحياة اليومية لطفل يطلب طعاما لا وجود له ولمرضى فقدوا القدرة على تحمّل أجسادهم المنهكة وأمهات لا يستطعن إقناع أطفالهن بسبب غياب الخبز عن المائدة
الرضيع عز الدين الذي وُلد تحت الحصار لا يعرف من العالم سوى الحرب ولا يتحدث سوى بلغة الجوع يصرخ لأجل “أُبزة” خبزة صغيرة لا يجدها بينما والدته تبحث في الخراب عن دقيق مفقود وجدّته تبكي عليه كأنها تودعه
لا يتعلق الأمر بعدم امتلاك النقود فالأسواق خالية بفعل سياسة تعطيش ممنهجة أُغلقت فيها المعابر ومنع إدخال الغذاء والدواء فتحولت رفوف المتاجر إلى سراب وانعدمت قدرة الناس على تأمين الحد الأدنى من احتياجات البقاء
من كانوا يزرعون الفاكهة ويصدرون الفراولة إلى أوروبا أصبحوا عاجزين عن الحصول على بيضة واحدة أطفال غزة الذين اعتادوا الحليب والجبن والخبز باتوا يتقاسمون حساءً خفيفا لا يسد رمقا ولا يمنح طاقة
رجل يصرخ على جثث سبعة من أفراد عائلته يقول نحن جائعون قبل أن تُقصف خيمتهم بطائرة استطلاع إسرائيلية في مشهد يلخص المعادلة الجهنمية الموت بالتجويع أو بالمجزرة
طلبة الجامعات في غزة يقدمون امتحاناتهم النهائية على بطون خاوية وبطاريات شبه فارغة وفي كل لحظة يسابقون الموت والتعبير عن طموحاتهم في وسط أنقاض الحياة تحوّل إلى معركة يومية ضد الانهيار
ما يجري في غزة ليس كارثة إنسانية طارئة بل سياسة معلنة عنوانها الخنق حتى الموت وحيث تُدار المعابر بالقرار وتُمنع المساعدات بإرادة سياسية فإن الحديث عن الحياد يصبح جزءا من الجريمة
الاحتلال الإسرائيلي يستخدم الجوع كوسيلة حرب والدول الداعمة له تشاركه المسؤولية بصمتها ودعمها العسكري والسياسي والإنساني المزعوم لم يعد يجدي نفعا أمام مشهد الأطفال الذين يموتون بصمت
غزة اليوم لا تطلب الشفقة بل وقف الإبادة كسر الحصار وإنهاء التواطؤ الدولي الذي يسمح لهذه المجازر أن تستمر لأن المجاعة ليست قضاء وقدرا بل جريمة منظمة مكتملة الأركان
