المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    المرتضى يجدد الاستعداد لصفقة شاملة للأسرى ويوجه انتقاداً للنظام السعودي

    جدد عبدالقادر المرتضى، رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى في...

    أنصار الله ترحّب بصفقة تبادل الأسرى في غزة وتصفها بـ”الانتصار المجيد”

    رحّبت حركة أنصار الله في اليمن بصفقة تبادل الأسرى...

    تحرير الأسرى.. لحظة تاريخية في مسار القضية الفلسطينية وترسيخ لمعادلة المقاومة

    أكد مكتب إعلام الأسرى أن عملية تحرير الأسرى الفلسطينيين...

    استشهاد الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي برصاص عصابات مسلحة جنوب غزة

    استُشهد مساء الأحد، الصحفي والناشط الفلسطيني صالح الجعفراوي، أثناء...

    مصر ووهم الحضارة والالتحاق بالغرب

    تعيش مصر حالة من التغريب الثقافي والديني منذ أكثر من مائتي عام تقريباً، فوالي مصر محمد علي باشا (حكم بين عامي 1805 وحتى 1848) قرر أن يجعل من البلاد دولة عصرية على النموذج الأوروبي، ولحقه في ذلك أولاده وأحفاده الذين حكموا حتى تاريخ 23 يوليو 1952، وطيلة تلك الحقبة ومصر حكومةً وشعباً تسعى للتشبه بالملكيات الأوروبية، خاصة في بريطانيا وألمانيا القيصرية، وشمل ذلك النوع من التقليد الأعمى أغلب مجالات الدولة كالجيش والتعليم والصناعة والتجارة، إلا أن التشابه اقتصر على الشكل وبعض المظاهر، ولم تنجح مصر في أن تصبح دولة عظمى على غرار الإمبراطوريات المتسلطة على أغلب دول العالم.

    استمرت هذه السياسة في عهد أبناء محمد علي وأحفاده، الذين حكموا مصر حتى سقوط النظام الملكي في 23 يوليو 1952. وخلال تلك العقود، كانت الدولة المصرية تتشبه بالملَكيات الأوروبية، وخصوصًا بريطانيا وألمانيا القيصرية، سواء في النظام الإداري أو العمراني أو حتى في الاحتفالات الرسمية والزيّ العسكري، لكن دون أن يُترجم هذا التشبه إلى نفوذ سياسي أو استقلال اقتصادي. فقد ظلت مصر خاضعة لنفوذ بريطانيا، ثم للاحتلال المباشر بعد عام 1882، ما حوّل التحديث المظهري إلى وسيلة لضمان رضى المستعمر لا لإزاحته.

    جاءت ثورة 1952 لتُنهي حكم الأسرة العلوية، ورفعت شعار الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، غير أن محاولة بناء نموذج اشتراكي على غرار الاتحاد السوفيتي اصطدمت بالعقليات المحلية والواقع الطبقي المعقد. وعلى الرغم من أن التجربة الناصرية لم تستنسخ النموذج السوفيتي بشكل كامل، إلا أنها استطاعت أن تحقق إنجازات اقتصادية واجتماعية ملموسة في الستينيات، حين تم تأميم قناة السويس عام 1956، وطُردت الشركات الأجنبية، وأُنشئ السد العالي بدعم من موسكو، وتوسعت قاعدة التعليم المجاني، ونمت الطبقة الوسطى، وارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 7% سنويًا. وقد شكلت هذه المرحلة ذروة الاستقلال الاقتصادي في تاريخ مصر الحديث، حين تراجعت اليد الإمبريالية إلى الخلف مؤقتًا، وبدأت الدولة تبني قرارها بعيدًا عن التوجيه الغربي.

    لكن هذا المسار انكسر برحيل جمال عبد الناصر عام 1970، ليبدأ خلفه محمد أنور السادات مسارًا مختلفًا أعاد مصر إلى فلك الغرب. فعبر سياسة “الانفتاح الاقتصادي” التي أُطلقت عام 1974، فُتحت البلاد أمام رؤوس الأموال الأجنبية دون حماية حقيقية للمنتج الوطني، وتحولت مصر سريعًا إلى دولة استهلاكية تعتمد على المعونة الأمريكية والقروض الخارجية. وتزامن هذا التحول مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، والتي أُبررت حينها بالحاجة إلى التفرغ لبناء الاقتصاد، غير أن النتيجة كانت عكسية تمامًا. فقد أصبح الاقتصاد المصري مرتهنًا لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وشهدت البلاد تصاعدًا في التبعية وانهيارًا تدريجيًا في مؤسسات الإنتاج والخدمات العامة.

    وفي موازاة ذلك، عادت مصر لتتبنّى مظاهر التغريب كما كان الحال في زمن الأسرة العلوية، فامتلأت الشوارع بالإعلانات الغربية، وتغيرت أنماط المعيشة، وازدهرت الثقافة الاستهلاكية، لكن كل ذلك لم يُخرج البلاد من تصنيف “دولة من العالم الثالث”. فالجوهر ظلّ هشًّا، والاقتصاد غير منتج، والمجتمع في حالة استقطاب حاد. وقد ساهمت السياسات الغربية، بقيادة واشنطن في إبقاء مصر ضمن هذه الحالة من الضعف الموجه، حيث تُمنح قروض ومعونات مقابل ضمان استمرار السياسات الموالية للمصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة.

    وهكذا يتكرر النمط ذاته: مشروع تغريبي يبدأ بالحماسة للحداثة ينتهي بالارتهان، وخطاب عن “التطور” ينتهي إلى مزيد من التبعية. إن وهم اللحاق بركب الغرب ـ دون امتلاك مشروع حضاري مستقل ـ لم يقد مصر إلى النهضة، بل قادها إلى المزيد من الضعف، وما زالت تعيش آثاره حتى اليوم.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     محمد محسن الجوهري

    spot_imgspot_img