في مشهد سياسي وعسكري متشابك، أعلنت المقاومة الفلسطينية موقفها من مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لما سمّاه “خطة السلام”، واضعة أمام العالم خريطة واضحة من القبول المشروط والرفض العملي، بما يحافظ على الثوابت الوطنية ويمنع تصفية القضية الفلسطينية تحت غطاء التسويات.
ففي بيان رسمي، أكدت حركة المقاومة الإسلامية حماس، كبرى فصائل المقاومة في غزة، أنها وافقت على تبادل الأسرى وفق الصيغة الواردة في الخطة الأمريكية، انطلاقًا من الحرص على وقف المجازر بحق أبناء الشعب الفلسطيني، لكنها شددت في الوقت ذاته على أن هذا لا يعني تنفيذ العملية خلال المهلة التي حددها ترامب بـ72 ساعة، واصفة ذلك بأنه مستحيل ميدانيًا، خاصة مع وجود جثامين لجنود صهاينة داخل مناطق لا تزال تحت سيطرة الاحتلال.
القيادي في الحركة أسامة حمدان أوضح أن ملف الأسرى لا يمكن فصله عن الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من القطاع، في تأكيد صريح على أن المقاومة تربط أي عملية تبادل بتحقيق شرط الانسحاب، وهو ما يعني عمليًا نسف أهم أهداف الاحتلال العسكرية وشروطه التي تربط الانسحاب بتسليم السلاح، في حين جعلت المقاومة من الأسرى مفتاحًا للضغط والندية لا للابتزاز السياسي.
أما سلاح المقاومة، فقد تجاهله البيان عمدًا، ليكون التجاهل نفسه موقفًا صلبًا يؤكد أن السلاح ليس مطروحًا للنقاش ولا يدخل ضمن أي تسوية أو مقايضة. كذلك، حسمت الحركة الجدل حول مستقبل إدارة القطاع بتأكيدها أن الإدارة ستكون فلسطينية خالصة، رافضة بشكل قاطع أي وجود لقوات عربية أو أجنبية على أراضي غزة.
بهذه الشروط رسمت المقاومة خطوطها الحمراء: لا وصاية، لا نزع سلاح، لا إدارة أجنبية. وهي خطوط تقلب الطاولة على المقترح الأمريكي وتعيد الكرة إلى ملعب واشنطن وتل أبيب، بعد أن سعت الأخيرة إلى تحميل المقاومة مسؤولية إفشال “الحل السياسي”. إلا أن الرد جاء ذكياً، إذ وافقت المقاومة على مبدأ التبادل الإنساني لتسحب الذريعة، لكنها عمليًا أغلقت الطريق أمام تمرير المشروع الصهيوني المغلف بالدبلوماسية الأمريكية.
هذا الموقف أربك الاحتلال الإسرائيلي وأشاع موجة من الفوضى داخل مؤسساته السياسية والأمنية. فقد نقلت هيئة البث الإسرائيلية أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو صُدم من تعليق ترامب الإيجابي على ردّ حماس، إذ كان يتوقع رفضًا مطلقًا يتيح له مواصلة الحرب. وسارع نتنياهو إلى عقد اجتماع طارئ مع عدد محدود من وزرائه لبحث الرد الأمريكي وموقف المقاومة، وسط انقسام حادّ في الحكومة والشارع الصهيوني بين مؤيدين للتصعيد ومتحفظين خشية الصدام مع واشنطن.
في المقابل، تحوّل الموقف الأمريكي إلى لغز سياسي؛ إذ أبدى ترامب حماسة غير مسبوقة لردّ حماس، واحتفى به واصفًا اليوم بأنه “مهم جدًا للسلام”، شاكرًا دولًا عربية وإسلامية على تعاونها، بينها قطر وتركيا والسعودية والأردن ومصر، معتبرًا الرد الفلسطيني “مدخلًا لسلام تاريخي”. لكن خلف هذا الاحتفاء، يرى مراقبون أن ترامب يسعى لتسجيل إنجاز سياسي يضمن له جائزة نوبل للسلام، في حين يتهمه قادة إسرائيليون باستخدام غزة كورقة انتخابية.
وفي تل أبيب، لم يمر هذا الموقف مرور الكرام؛ فقد شنّ إعلام الاحتلال حملة على الرئيس الأمريكي، متهمًا إياه بـ“ارتداء عباءة القسام” في صور ساخرة تداولتها المنصات العبرية، في حين وُصفت خطته بأنها “مغامرة متهورة” قد تُفشل أهداف الحرب وتضع إسرائيل في مواجهة دبلوماسية محرجة.
بين رفض الاحتلال وارتباك واشنطن، يبرز الموقف الفلسطيني كعلامة فارقة؛ المقاومة تقول نعم للإنسانية، ولا للتصفية. نعم لتبادل الأسرى ووقف العدوان، ولا لنزع السلاح أو فرض الوصاية. بهذا الردّ، نقلت حماس المعركة من الميدان إلى السياسة دون أن تتنازل عن الثوابت، لتثبت مجددًا أن القوة في غزة ليست بندقية فحسب، بل وعي سياسي وموقف سيادي يرفض الانحناء حتى تحت القصف.