من الحدث إلى التحوّل
لم يكن طوفان الأقصى مجرّد عملية عسكرية فلسطينية عابرة، بل نقطة تحوّل استراتيجية أعادت رسم موازين الصراع في المنطقة، وكسرت جدار الصمت العالمي تجاه القضية الفلسطينية. لقد نجحت المقاومة الفلسطينية، من خلال هذا الفعل الجهادي النوعي، في تحويل قضية فلسطين من ملفٍّ محليٍّ محصور في حدود جغرافية ضيّقة إلى قضية عالمية تستقطب الرأي العام الإنساني، وتعيد وضع الشعب الفلسطيني في موقعه الطبيعي داخل ضمير الإنسانية.
لقد استطاع الطوفان أن يعيد إلى العالم ذاكرته الأخلاقية المفقودة، ويؤكد أن حق تقرير المصير لا يُمنح بإملاءات دولية ولا يُنتزع عبر اتفاقاتٍ مشبوهة، بل هو حق حصري للشعب الفلسطيني وحده.
ومن هنا، لم يكن مشهد المسيرات الشعبية التي عمّت شوارع العواصم العالمية مجرّد تعبيرٍ عن التعاطف الإنساني، بل كان عودة الوعي الجمعي العالمي إلى معيار العدالة. ملايين خرجوا ليقولوا: إن من يقاتل من أجل أرضه وكرامته هو الضحية الحقيقية، وإن من يمارس القتل والتهجير والتدمير باسم “الأمن” هو الجلاد الحقيقي.
سقوط الرواية الصهيونية
لقد شكّل طوفان الأقصى زلزالًا سياسيًا واستراتيجيًا هزّ ركائز المشروع الصهيوني في المنطقة، وأسقط القناع عن كيانٍ بُني على الكذب والخداع وتزييف الوعي.
فعلى مدى عقود، نجحت “إسرائيل” في تسويق روايةٍ زائفة للعالم، تظهر فيها كضحيةٍ دائمةٍ لـ”الإرهاب”، تحتمي بخطاب المظلومية، بينما تمارس أفظع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني. غير أن طوفان الأقصى كشف زيف هذه الرواية، ووضعها تحت المجهر العالمي، ليكتشف العالم أن “الكيان الذي يدّعي الدفاع عن نفسه” يمارس أبشع صور الإبادة الجماعية ضد المدنيين.
لم يكن السلاح الفلسطيني وحده من هزّ صورة الاحتلال، بل الحقيقة التي انفجرت بوجه منظومة الإعلام الغربي المتواطئ. فصور الأطفال تحت الركام ومشاهد المستشفيات المدمّرة ومجازر اللاجئين، كلّها أعادت رسم مشهد الصراع الأخلاقي، وأجبرت العالم على مواجهة السؤال الجوهري:
كيف يمكن لدولٍ تدّعي حماية القيم الإنسانية أن تصمت أمام جرائم تُرتكب على الهواء مباشرة؟
انهيار الشرعية الأخلاقية للغرب
لقد كشفت الحرب على غزة عن أزمةٍ أخلاقية وسياسية عميقة في بنية النظام العالمي القائم منذ الحرب العالمية الثانية. فحين يتواطأ الغرب الذي طالما قدّم نفسه بوصفه “حارس القيم الإنسانية” مع مجازر تُرتكب بحق الأبرياء، فإنه عمليًا يفقد شرعيته الأخلاقية والسياسية التي بنى عليها هيمنته لعقود.
بدأت الشعوب الغربية تدرك حجم الزيف في الخطاب الليبرالي الذي طالما تغنّى بـ”حقوق الإنسان”، وبدأت ترى كيف تُداس تلك القيم حين يتعلق الأمر بفلسطين.
ومن هنا يمكن القول إن طوفان الأقصى لم يسقط فقط أسطورة الجيش الإسرائيلي، بل أسقط معها أسطورة التفوّق الأخلاقي الغربي، وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة تعريف “الإنسانية” خارج القوالب الغربية الاستعلائية.
تآكل النظام الأحادي وبروز التعددية
أحد أبرز انعكاسات الطوفان هو تسريع تفكّك النظام الأحادي القطبية الذي تتزعمه واشنطن منذ تسعينيات القرن الماضي.
لقد أظهرت مواقف الغرب المنحازة إلى “إسرائيل” عمق الانقسام بين الجنوب العالمي الذي يقف مع العدالة وحقوق الشعوب، وبين المعسكر الغربي الذي يبرّر الجرائم تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”.
هذا الانقسام فتح المجال أمام قوى كبرى كـالصين وروسيا وإيران لتقدّم نفسها كبدائل أكثر توازنًا وعدلًا في العلاقات الدولية، مما يشير إلى بداية تحوّل في مركز الثقل العالمي من الغرب إلى الشرق، ومن الهيمنة إلى التعددية.
محور المقاومة: من الفكرة إلى المنظومة
على المستوى الإقليمي، كان لطوفان الأقصى أثرٌ بالغ العمق في تعزيز تماسك محور المقاومة وإعادة صياغة معادلات الردع في المنطقة.
فالعملية لم تكن مواجهةً بين فصيلٍ فلسطيني والاحتلال فحسب، بل تجسيدًا عمليًا لوحدة الميدان والمصير بين أطراف المحور الممتد من فلسطين إلى لبنان، ومن العراق إلى اليمن وإيران.
لقد بات هذا المحور منظومةً استراتيجية متكاملة تتقاسم المعلومات، وتنسق المواقف، وتتكامل في الأدوار الميدانية والسياسية والإعلامية.
كما أظهرت العملية أن المقاومة الفلسطينية لم تعد معزولة، بل تقف خلفها شبكة دعمٍ لوجستي وسياسي جعلت العدو يدرك أن أي مواجهة واسعة لن تبقى محصورة في غزة، بل ستتحول إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات.
هذا الإدراك رسّخ معادلة جديدة في الصراع: “أي عدوان على غزة لن يمرّ دون ردٍّ من جبهات أخرى”، وهو ما جعل الكيان يعيش تحت ضغط توازن رعبٍ دائم.
تحوّل العقيدة القتالية للمقاومة
لقد كسرت عملية طوفان الأقصى الصورة النمطية الدفاعية للمقاومة، وأثبتت أن زمن ردّ الفعل انتهى.
المقاومة اليوم قادرة على المبادرة والهجوم والمفاجأة، وعلى نقل المعركة إلى عمق الكيان.
لم تعد “تل أبيب” والمدن المحتلة بمنأى عن الصواريخ والطائرات المسيّرة، وسقطت أمام الطوفان أسطورة القبة الحديدية والتحصينات الأمنية.
تحوّلت الجغرافيا الإسرائيلية إلى ساحة مكشوفة لا أمان فيها، وتلاشت وهم “المناطق الآمنة”.
هذا التحوّل في الميدان أعاد إلى الذاكرة الصهيونية هاجس الزوال الوجودي، وأعاد إشعال عقدة الثمانين التي تلاحق الكيان منذ نشأته.
الانعكاسات النفسية والإستراتيجية
على المستوى النفسي، أحدث الطوفان هزّة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي الذي بات يعيش حالة خوفٍ دائمة، ليس من خسارة الجنود فحسب، بل من انهيار الثقة بقدرة “الكيان” على الحماية.
لقد أصبح الشعور بالتهديد الوجودي حاضراً في كل بيتٍ ومؤسسةٍ في الكيان، ما دفعه إلى ردّة فعلٍ هستيريةٍ في غزة، في محاولةٍ فاشلةٍ لاستعادة الردع عبر المجازر والدمار.
لكن الدم لا يصنع الأمن، والإبادة لا تمنح الشرعية، وما يجري اليوم ليس سوى صراعٍ بين إرادةٍ تقتل خوفًا من الفناء، وإرادةٍ تقاتل إيمانًا بالحق والكرامة.
الطوفان وانبعاث الوعي العربي والإسلامي
أعاد طوفان الأقصى الروح إلى بعض الشعوب العربية والإسلامية التي أنهكها اليأس وخدّرها التطبيع.
لقد أثبتت العملية أن مشروع المقاومة لا يزال حيًّا، وأن الرهان على الشعوب هو الرهان الأبقى والأصدق.
عاد الوعي الجمعي إلى تحديد معسكر الحق والباطل بوضوح: من يقف مع فلسطين يقف مع القيم، ومن يصطف مع الكيان يقف مع الباطل مهما غُلّف خطابه بالديبلوماسية أو المصالح.
ويمكن القول إن الطوفان لم يوحّد الميدان فحسب، بل وحّد الوعي والمصير، وأعاد ترسيم الحدود بين من ينتمي إلى محور المقاومة، ومن ارتضى الخضوع لمحور التطبيع.
باختصار، يمكن القول إن غزة أصبحت مرآة كاشفة لانحدار الغرب وصعود عالمٍ جديدٍ متعدد الأقطاب، عالمٍ لا يُدار فقط بالسلاح والمال، بل بالوعي والعدالة والموقف الأخلاقي.
ما نشهده اليوم ليس تضامنًا إنسانيًا عابرًا مع فلسطين، بل إرهاصات نظامٍ عالمي جديد يتشكّل على أنقاض الهيمنة الغربية وتواطئها، ويضع المقاومة في موقع الفاعل لا المفعول به.
لقد غيّر طوفان الأقصى وجه التاريخ المعاصر، وأثبت أن الشعوب حين تقاتل من أجل كرامتها قادرة على هزيمة أعتى الإمبراطوريات، وأن الوعي حين يُستعاد يصبح سلاحًا لا يقلّ فتكًا عن الصاروخ والبندقية.