كشفت مجلة فورين بوليسي الأمريكية في تقرير تحليلي واسع أن العالم بعد السابع من أكتوبر لم يعد كما كان قبله، مؤكدة أن الحرب الإسرائيلية على غزة وما رافقها من جرائم إبادة هزّت النظام الدولي وكشفت زيف ادعاءات الغرب بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
التقرير الذي ضمّ حواراً بين رئيس تحرير المجلة رافي أغروال وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ستيفن والت، مؤلف كتاب “اللوبي الإسرائيلي”، خلُص إلى أن ما يجري في غزة لم يعد مجرد صراع محلي بل نقطة تحول تاريخية تعيد صياغة موازين القوة وتفضح أخلاقيات الإمبراطورية الأمريكية.
يرى أغروال أن طوفان الأقصى شكّل زلزالاً سياسياً وأخلاقياً امتدت ارتداداته من غزة إلى كل عاصمة في العالم، بعد أن تحولت إسرائيل إلى قوة عدوان عابرة للحدود تشنّ الغارات على إيران ولبنان وسوريا واليمن وحتى قطر، بغطاء مباشر من واشنطن. هذا التوسع العسكري، كما يقول، جعل الخبراء يشككون في بقاء القانون الدولي نفسه، بينما انقسمت الشعوب والدول بين معسكرٍ يقف مع الضحية الفلسطينية، وآخر يبرر القاتل الإسرائيلي باسم “التحالف والقيم الغربية”.
وفي تحليله لمآلات الحرب، يؤكد البروفيسور والت أن ما يجري هو أكبر فشل للنظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، موضحاً أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على ضبط الإقليم ولا على حماية هيبتها، بعد أن تحولت من دولة تدّعي الوساطة إلى شريك مباشر في الجرائم. ويشير إلى أن ما حدث في غزة عرّى الكذبة التي روجتها واشنطن لعقود حول “النظام القائم على القواعد”، بعدما قادت بنفسها تقويض القانون الدولي لحماية تل أبيب من المساءلة.
ويضيف والت أن الأمم المتحدة فقدت ما تبقى من مصداقيتها، إذ وقفت عاجزة أمام مشاهد الإبادة في غزة، بينما كانت واشنطن تهدد المحكمة الجنائية الدولية وتمنع أي تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. ويخلص إلى أن إفلات القتلة من العقاب سيقود إلى عالم بلا قانون ولا عدالة، تُرتكب فيه الجرائم ضد الشعوب المقهورة دون رادع، وتتحول القوة إلى بديل عن الحق.
ويرى والت أن المقاومة الفلسطينية استطاعت رغم الحصار والدمار أن تفرض معادلتها الأخلاقية والسياسية على العالم، بعدما كشفت عجز الكيان الصهيوني عن تحقيق أهدافه، وأجبرت حتى الرأي العام الغربي على إعادة النظر في روايته. ويشير إلى تحوّل غير مسبوق في المزاج الشعبي الأمريكي، حيث أظهر استطلاع حديث أن 40% من الأمريكيين باتوا يؤمنون بأن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً، في سابقة تاريخية منذ 1998. ويصف والت هذا التحول بأنه “هزيمة أخلاقية لإسرائيل”، لأن قوتها الإعلامية والدبلوماسية لم تعد قادرة على حجب الحقيقة عن الشعوب.
وفي المقابل، يرى الكاتب أن اللوبي الإسرائيلي، رغم نفوذه في واشنطن، لم يعد قادراً على منع التآكل البطيء في صورة إسرائيل، مؤكداً أن الولايات المتحدة والمنطقة كانتا ستكونان في وضع أفضل لو تبنتا موقفاً أكثر توازناً وعدلاً تجاه الفلسطينيين، لأن جذر الصراع هو حرمان سبعة ملايين فلسطيني من حقهم في الحرية والكرامة على أرضهم.
أما في أوروبا، فقد أشار التقرير إلى أن الاحتجاجات الشعبية الواسعة والمواقف الرسمية الداعية للاعتراف بدولة فلسطينية تعكس انكسار جدار الصمت الغربي، إذ بدأت الحكومات تدرك أن صمتها أمام المجازر في غزة يهدد ما تبقى من صورتها كمدافع عن حقوق الإنسان. ودعا والت الدول الأوروبية إلى الانتقال من التصريحات إلى الأفعال، بفرض مقاطعة اقتصادية وثقافية ورياضية على الكيان الصهيوني على غرار ما جرى ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ويختم التقرير بالتأكيد على أن إسرائيل، التي كانت تروّج لنفسها كواحة ديمقراطية في الشرق الأوسط، تتحول اليوم إلى كيانٍ مغلق يعيش على فوهة البندقية، شبيه بـ“إسبرطة الحديثة” التي يحلم بها نتنياهو، دولة لا تعرف سوى القوة ولا تنتج سوى الخوف. وفي المقابل، تظهر المقاومة الفلسطينية كصوت للكرامة والحرية، وكمشروع وطني وإنساني يتجاوز الحدود، أعاد للعالم معنى الصمود والشرف في وجه الطغيان.
إنه كما تقول فورين بوليسي، عالم جديد وُلد من تحت الركام في غزة، عالم تسقط فيه الأقنعة، وتُعاد فيه كتابة التاريخ بأصابع المقاومين لا بمدافع المحتلين.