في العلوم العسكرية هناك قاعدة استراتيجية شهيرة تقول: “القوي إذا لم ينتصر فهو مهزوم، والضعيف إذا لم يُهزم فهو منتصر”، وهذه المقولة تبدو مطابقة للواقع في غزة.
وبرغم أن الكيان الإسرائيلي شن حرباً شاملة استمرت عامين، إلا أن المحصلة النهائية تكشف فشلاً ذريعاً في تحقيق هذه الأهداف، فبعد كل هذا العنف، ها هو الكيان اليوم يجلس إلى طاولة المفاوضات، لمناقشة صفقة تبادل الأسرى والانسحاب من أراضي القطاع، وبالتالي فإن الجلوس إلى طاولة المفاوضات يتناقض مع “الانتصار الساحق” الذي يزعم قادة الكيان أنهم حققوه، ولو كان هناك انتصار ساحق، فلن تكون هناك مفاوضات، لأن المنتصر يحقق أهدافه ويفرض شروطه كأمر واقع، وفق ما هو متعارف عليه في كل الحروب.
الدمار ليس مقياساً للانتصار
يصور البعض مشاهد الدمار الشامل والأعداد الكبيرة للشهداء من المدنيين بأنها دليل على هزيمة المقاومة، وهذه النظرة غير منطقية وليست منصفة ، ففي المعادلة العسكرية، يقاس الانتصار بتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وليس بحجم الخراب وأعداد الضحايا.
ورغم أن الكيان الإسرائيلي تخطى كل الخطوط الحمراء وانتهك كل قواعد الحروب والقوانين الإنسانية، إلا أنه لم يحقق أهدافه الرئيسية المعلنة خلال عامين من العدوان (إعادة الأسرى بالقوة … إنهاء المقاومة في القطاع).
وبالتالي فإنه يمكننا القول إن الدمار هو تعبير عن القوة العمياء، لكنه ليس مقياساً لنجاح المعادلات العسكرية التي ماتقاس دائماً بقدرة الطرف القوي على تحقيق أهدافه المعلنة، وقدرة الطرف الضعيف على الصمود وإفشال الأهداف التي يريد القوي تحقيقها.
وفي هذا السياق يقول المحلل السياسي الفلسطيني ياسر أبو هين في تصريح للجزيرة إنه” بعد مرور عامين على الحرب والإبادة الجماعية في قطاع غزة، لا يمكن القول إن الاحتلال الإسرائيلي قد حقق أهدافه المعلنة في بداية الحرب، على الرغم من الأضرار الجسيمة والخسائر الفادحة التي لحقت بالشعب الفلسطيني وببنية المقاومة في غزة بما في ذلك استهداف القيادات العسكرية وإلحاق دمار واسع في مقدراتها”.
وأوضح أبو هين أن” أهداف الاحتلال كانت تتضمن القضاء على المقاومة الفلسطينية، وفرض تهجير وتفريق سكان قطاع غزة، واستعادة الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، إضافة إلى محاولات طمس هوية قطاع غزة وفصلها عن المشروع الوطني الفلسطيني، لكن عند فحص هذه الأهداف بدقة، يقول، نجد أن الاحتلال فشل في تحقيق أغلبها بشكل حاسم”.
وأضاف “طالما أن المقاومة لا تزال قائمة وتستمر في المواجهة، وطالما أن قيادة المقاومة موجودة رغم الخسائر التي تعرضت لها، فهذا يدل على أن هدف الاحتلال الأكبر المتمثل بالقضاء التام على بؤرة المقاومة وسلخ غزة عن المشروع الوطني الفلسطيني لم يتحقق”.
كما أن سياسة الدمار الشامل التي انتهجها الكيان الإسرائيلي والتجويع كان لها نتائج عكسية في صفوف الشعب الفلسطيني والحاضنة الشعبية للمقاومة، إذ أن إيغال العدو في جرائمه ضاعف من كراهية الفلسطينيين للاحتلال وزاد من تمسكهم بمبادئهم.
وفي هذا الصدد، تلفت الانتباه دراسة بخصوص التفاعل بين المكونات النفسية والاجتماعية لـ”إرادة القتال”، أعدّها 4 من الباحثين في جامعة ماساتشوستس-بوسطن في يونيو/حزيران 2025 بعنوان “كيف ترى غزة حرب 2023-2025 ومستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
وكانت خلاصة هذه الدراسة بناء على مسح تمثيلي لآراء سكان القطاع في أوائل عام 2025 أن الحرب رسّخت إصرارهم على القضاء على إسرائيل، ورفضهم حلولا من قبيل الدولة الديمقراطية الثنائية القومية.
كما أكدت تمسكهم بقيم جوهرية راسخة تتعلق بالهوية الوطنية والدينية والتعلق بالأرض، وهي قيم يشيرون إلى نيتهم التمسك بها حتى مع تضحيات شخصية كبيرة، خلافا للافتراض القائل إنهم قد يكونون أكثر ميلا للتنازل عن تطلعاتهم السياسية الأكبر لمصلحة احتياجات مادية أكثر إلحاحا.
كما أن سياسة التجويع والحصار والدمار الشامل للاحتلال، زادت من مكانة المقاومة الفلسطينية في كل دول العالم، وأوجدت تضامناً شعبياً عالمياً غير مسبوق مع فلسطين، وهذا مانراه من خلال التظاهرات والمسيرات التي تخرج في غالبية دول العالم بصورة شبه يومية، بالإضافة إلى ما تظهره العديد من استطلاعات الرأي، وعلى سبيل المثال، استطلاع للرأي أجرته مؤسسة هارفارد هاريس في يوليو/تموز 2025، أجاب 40% من الشباب الأميركيين عند سؤالهم عمّن يدعمون أكثر، إسرائيل أم حماس، بأنهم يدعمون حماس.
وهذا التضامن الشعبي العالمي التي لم تحظى بمثله أي قضية عالمية أخرى، يعتبر مكسب استراتيجي للمقاومة الفلسطينية، وخسارة للكيان الإسرائيلي الذي تتوسع عزلته يوماً بعد يوم، وهذا ما عبر عنه الكاتب اليساري الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة هآرتس بقوله ” أصبحت غزة هيروشيما، لكن روحها لا تزال حية، كانت القضية الفلسطينية قد اختفت تماما من الأجندة الدولية،
وأصبح الفلسطينيون هم الهنود الحمر في هذه المنطقة، ثم جاءت الحرب ووضعتهم على رأس الأجندة العالمية، العالم يحبهم ويشعر بالأسف لأجلهم “.
بدوره، قال مراسل صحيفة “معاريف” العبرية آفي أشكنازي:” نجحت حماس إلى حد كبير في خطوات عدة اتخذتها، فعلى سبيل المثال لا يوجد اليوم شارع في أوروبا لا يرفرف فيه علم فلسطين على واجهة متجر أو يظهر شعار “الحرية لفلسطين”، في كل ساحة بإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا واليونان شوهدت مظاهرات لمؤيدي الحركة، هنا، قدّمت الحركة درسا حقيقيا للدبلوماسية الإسرائيلية الغائبة”
الحشد الهائل للقوة لم يحقق الأهداف المعلنة
في عدوانه على غزة، استخدام الكيان الإسرائيلي تكتيكات “الأرض المحروقة” و “الدمار الشامل”، في محاولة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية محددة.
الحجم الكمي والنوعي للقوة النارية:
وفقاً لبيان أصدره المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، فقط أسقط جيش الكيان الإسرائيلي ما يقارب 200,000 طن من المتفجرات على القطاع، وهذا الحجم من المتفجرات يفوق قوة القنبلة النووية إكثر من عشر مرات.
كما استخدم الكيان الإسرائيلي ترسانة متطورة من أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية العالمية، شملت طائرات مقاتلة متطورة، ومسيرات، وأنظمة ذكاء اصطناعي، وأسلحة دقيقة التوجيه، بدعم لوجستي واستخباري مفتوح من حلفائها الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى عربات ودبابات عسكرية مدرعة خلال التوغل البري.
تكتيكات الحصار والعقاب الجماعي:
فرض الكيان الإسرائيلي حصار شامل وخانق على قطاع غزة، شمل إغلاق جميع المعابر والمنافذ، كما تم ممارسة سياسة التجويع المنهجي عبر تقييد دخول المواد الغذائية الأساسية، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية ووصولها إلى مرحلة المجاعة.
وبرغم هذه الانتهاكات الصريحة لقواعد الحرب وحقوق الإنسان، وعلى الرغم من التفوق العسكري الساحق والحشد الهائل للقوة، لم يتمكن الكيان الإسرائيلي من تحقيق أهدافه المعلنة، والمتمثلة في القضاء التام على المقاومة الفلسطينية، وإعادة الأسرى بالقوة، وهنا فقد أظهرت فصائل المقاومة الفلسطينية قدرة استثنائية على الصمود والقتال المستمر لمدة عامين متتاليين، متحديةً كل التوقعات العسكرية الأولية.
وخلال تصديها لقوات الاحتلال الإسرائيلي اعتمدت المقاومة على تكتيكات حرب غير نظامية باستخدام أسلحة بدائية وبسيطة كما استخدمت الأنفاق بصورة فعالة لتنفيذ الكمائن والعمليات المباغتة.
هذا الصمود الأسطوري الذي تم في منطقة مفتوحة ومحاصرة كلياً، دون وجود أي خطوط إمداد خارجية، تجاوز كافة التقديرات التي وضعها المحللون والخبراء العسكريون حول العالم، والذين توقع غالبيتهم أن تكون فترة الصمود القتالي للمقاومة محصورة في نطاق أربعة إلى ستة أشهر فقط في مواجهة هذا الحشد العسكري الهائل.
ونتيجة لعمليات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، فقد اعترفت وزارة أمن الكيان الإسرائيلي أن عدد الجنود وأفراد قوات الأمن القتلى بلغ منذ 7 أكتوبر 2023 نحو 1152 عنصراً، “من بينهم 487 (أي حوالي 42%) دون سن 21 عاماً، بينما سقط 141 عنصراً فوق سن الأربعين. وأشارت المعطيات إلى تسجيل نحو 80 ألف مصاب نفسياً، واعترفت المؤسسات الرسمية بنحو 34 ألف معوق جسدياً أو نفسياً، من بين أكثر من 36 ألف طلب قُدّم لمؤسسة التأمين الوطني، ويُنظر في طلبات أخرى.
وهذه الإحصائيات ليست إحصائيات دقيقة، بل إن الكيان الإسرائيلي منذ نشأته ينتهج سياسة التعتيم على خسائره البشرية والمادية، حتى لا يؤثر ذلك على نفسيات المستوطنين.
اعترافات إسرائيلية بفشل الكيان في حسم المعركة
هناك الكثير من المسؤولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين سجلوا اعترافاتهم بفشل الكيان الإسرائيلي في توقع عملية طوفان الأقصى وفشله في تحقيق أهدافه خلال عامين من العدوان على غزة.
وانتقد رؤساء سابقين لأجهزة الأمن والاستخبارات، من بينهم رؤساء سابقون للموساد والشاباك و”أمان” والشرطة، إضافة إلى قادة أركان سابقين مثل موشيه يعالون ودان حالوتس وداني ياتوم وعامي أيالون وعاموس مالكا وأوري ساغي، استمرار المعركة في غزة، مؤكدين بأن الحرب فشلت في تحقيق أهدافها، بل ألحقت أضرارا إستراتيجية بالكيان الإسرائيلي، وقالوا “نحن على أعتاب هزيمة هذه الحرب لم تعد مبررة، بل قادت الدولة إلى فقدان أمنها وهويتها”.
وشددوا على أن” الإنجازات التي تحققت في بداية الحرب دُفنت لاحقا بفعل غياب الأهداف السياسية الواضحة”، مشيرين إلى أن” الجبهة الداخلية تتكبد خسائر مستمرة، بينما أصبح الجيش يعمل داخل بيئة معقدة تشبه حروب العصابات التي لم ينجح أي جيش في العالم في حسمها”.
ووفقا لرئيس الأركان السابق في جيش الاحتلال “أفيف كوخافي” فإن معركة طوفان الأقصى كشفت الإخفاقات والتصورات الوهمية والغطرسة التي قادت إلى كارثة 7 أكتوبر”.
وفي السياق نفسه، اعتبر القائد السابق للفيلق الجنوبي والكليات العسكرية “يتسحاق بريك” أن” الجيش أخفق في تنفيذ وعود رئيس أركانه لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، والتي تعهد فيها بهزيمة حماس، وتحرير الأسرى، واحتلال غزة، بل وإقامة نظام حكم جديد فيها “.
أما الكاتب الصحفي “بن كسبيت” فقال لصحيفة “معاريف” إن”الهزيمة التي منيت بها إسرائيل في 7 أكتوبر هي الأشد قسوة وإيلاما وإهانة في تاريخها، حتى في أسوأ كوابيسنا لم نتخيل أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث لنا”.
الخلاصة:
تظهر معطيات الحرب على غزة أن التفوق العسكري التكنولوجي والمادي المطلق، واستخدام أساليب “الدمار الشامل” و”الأرض المحروقة”، لا يضمن بالضرورة تحقيق النتائج الاستراتيجية خصوصاً إذا كانت الجغرافيا معقدة، كما تبرز قدرة قوات غير نظامية على الصمود وإطالة أمد الصراع وإرباك حسابات قوى عظمى من خلال الاعتماد على الإرادة القتالية، والمعرفة العميقة بمسرح العمليات، وتطوير أساليب قتالية مبتكرة تتلاءم مع طبيعة المواجهة.
كما أن عملية طوفان الأقصى وصمود المقاومة خلال عامين من العدوان، حطّمت أسطورة “الجيش الذي لايقهر” وكشفت أن قوة الكيان الإسرائيلي ووجوده مرتبط بالدعم الغربي والأمريكي على وجه الخصوص، بالإضافة إلى الخذلان العربي والإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
رضوان العمري