في لحظةٍ تاريخيةٍ اختلطت فيها دموع الألم بدموع الفرح، عمّت أجواء غزة المحاصرة حالة من الابتهاج الشعبي الكبير بعد الإعلان عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والاحتلال الإسرائيلي، إيذانًا بنهاية أطول وأعنف حرب إبادة شهدها القطاع في تاريخه الحديث.
غزة ترقص على أنقاض الحرب: الفرح يولد من تحت الركام
منذ فجر الخميس، خرج عشرات الشبان الفلسطينيين إلى الشوارع رغم الدمار الهائل والغارات التي لم تتوقف تمامًا، يرفعون الأعلام الفلسطينية ويهتفون للمقاومة، ويرقصون على وقع الأناشيد الوطنية في خان يونس وغزة ودير البلح.
هؤلاء الذين عاشوا عامين من النار والمجاعة والدمار، استقبلوا خبر وقف الحرب كولادةٍ جديدة بعد موتٍ طويل.
قال محمد ناصر (42 عامًا)، وهو نازح من غزة إلى دير البلح:
“عاد الأمل إلى حياتنا بعد عامين من الجوع والدمار وفقدان أحبّتنا. هذا الاتفاق أعاد إلينا الحياة.”
أما محمود عبد الله من مخيم جباليا فعبّر عن مشاعره قائلاً:
“نزحت أكثر من عشر مرات.. اليوم فقط أشعر أن الدم سيتوقف وأن أطفالنا قد ينامون دون أصوات الصواريخ.”
من جانبه، قال رمضان الوكيل من غزة:
“خرجنا من الحرب مثخنين بالجراح، لكننا سنعمر بلدنا، وغزة ستعود أجمل مما كانت.”
ورغم استمرار الغارات الإسرائيلية المتقطعة على أحياء الشجاعية والتفاح والزيتون حتى صباح الخميس، فإن الفرحة في غزة كانت أقوى من الدخان والركام.
فكل شهيدٍ ودمعةٍ تحولت إلى وقودٍ للكرامة، وكل بيتٍ مدمرٍ صار عنوانًا للانتصار.
فرحة في تل أبيب.. ولكنها فرحة المنهزم
وفي تل أبيب، عمّت الاحتفالات كذلك، ولكنها فرحة ناتجة عن انتهاء مأساة الأسرى والضغط الشعبي الهائل.
في ما يعرف بـ“ساحة الرهائن”، احتفلت عائلات الأسرى، وفي مقدمتهم إيناف زوجاوكر التي احتضنت ابنها المحرر، قائلةً:
“لا أستطيع أن أتنفس من الفرح.. هذا شعور لا يوصف.”
ورغم المشهد الاحتفالي، إلا أن المراقبين في “إسرائيل” وصفوه بأنه فرحٌ مشوبٌ بالهزيمة، فالاتفاق الذي رعته واشنطن جاء نتيجة فشلٍ عسكريٍّ واستخباريٍّ غير مسبوق، بعدما فشلت آلة الحرب الإسرائيلية في إخضاع غزة أو القضاء على المقاومة.
تفاصيل الاتفاق: تبادل أسرى وانسحاب كامل من القطاع
تم التوصل إلى الاتفاق بعد أربعة أيام من مفاوضات غير مباشرة في شرم الشيخ، نصّت على وقف فوري لإطلاق النار، وانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، وتبادل الأسرى بين الجانبين، وإدخال المساعدات الإنسانية.
ويُنتظر أن تفرج المقاومة عن عدد من الأسرى الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح أكثر من ألف معتقل فلسطيني من سجون الاحتلال، حيث يعاني الآلاف منهم من التعذيب والإهمال الطبي وسوء المعاملة.
البيانات الحقوقية تشير إلى أن “إسرائيل” تحتجز أكثر من 11 ألف أسير فلسطيني، بينما فقد القطاع خلال عامين من الحرب أكثر من 67 ألف شهيد، بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال، إضافة إلى تدمير 90% من البنية التحتية بفعل أكثر من 200 ألف طن من المتفجرات ألقتها الطائرات الإسرائيلية على أحياء غزة.
اليمن تتصدر ابتهاجات غزة: “لم نجد من أمة محمد سوى اليمن”
في موازاة فرحة النصر، تصدّر اسم اليمن مشهد الاحتفالات في شوارع غزة، حيث هتف الفلسطينيون بحياة اليمنيين الذين ساندوا قضيتهم عسكرياً وسياسياً وإنسانياً طوال الحرب.
وتداول ناشطون مقاطع فيديو تُظهر غزيين يرفعون الأعلام اليمنية ويهتفون:
“لم نجد من أمة محمد سوى اليمن بعد الله.. جزاكم الله العز والكرامة.”
وجاءت هذه المشاعر العفوية بعد الدور الكبير الذي قامت به القوات المسلحة اليمنية في إسناد غزة وفرض حصارٍ بحري وجوي على الكيان الإسرائيلي، ما ساهم في إنهاكه وإجباره على التفاوض.
فخلال عامين، نفّذت صنعاء مئات العمليات النوعية ضد أهدافٍ إسرائيلية وأمريكية وبريطانية في البحر الأحمر وخليج عدن والبحر المتوسط، مؤكدةً أن نصرة فلسطين ليست شعارًا بل التزامًا عمليًا.
ورغم الحروب المتعددة التي شنّها التحالف الأمريكي والبريطاني ضد اليمن تحت مسمياتٍ مختلفة، واصلت صنعاء عملياتها دون توقف، وأثبتت أنها قوة إقليمية فاعلة في معادلة الردع، وأن صوتها وصل من جبال صعدة إلى أزقة غزة.
الأمة تحتفل.. والمقاومة تنتصر
يؤكد المراقبون أن هذا الاتفاق لم يكن منّة من أحد، بل ثمرة صمودٍ أسطوريّ للمقاومة الفلسطينية، وتكاملٍ في المواقف من محور المقاومة الممتد من صنعاء إلى غزة، ومن بيروت إلى طهران.
لقد فشل التحالف الأمريكي–الإسرائيلي في كسر إرادة الشعوب، ونجحت المقاومة في فرض إرادتها على طاولة المفاوضات كما فرضتها في الميدان.
اليوم، تحتفل غزة بنصرٍ صنعته الدماء، وتردد مع صنعاء:
“لن تكون فلسطين وحدها.. ومن أرض سبأ خرجت صواريخ الوفاء، لتكتب مع غزة فصل الأمة المشرّف في وجه الطغيان.”