المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    اليمن.. ضمير الأُمَّــة ووفاؤها لغزة

    لم يكن موقف اليمن تجاه غزة مُجَـرّد ردّة فعلٍ...

    هل تلقى دبي مصير إيلات؟

    يتحدث مرتزقة اليمن عن جولة جديدة من الصراع المسلح...

    “يوتيوب” تمنح منشئي محتوى محظورين “فرصة ثانية”

    أطلقت منصة "يوتيوب" برنامج "فرصة ثانية" لمنح بعض منشئي...

    Lenovo تتحدى سامسونغ وآبل بحاسبها الجديد

    أعلنت Lenovo عن حاسبها اللوحي الجديد الذي سينافس بمواصفاته...

    تحذير عاجل من مايكروسوفت.. نهاية دعم “ويندوز 10” تهدد ملايين المستخدمين

    حذرت مايكروسوفت المستخدمين حول العالم من خطر متزايد للتعرض...

    اليمن.. ضمير الأُمَّــة ووفاؤها لغزة

    لم يكن موقف اليمن تجاه غزة مُجَـرّد ردّة فعلٍ عاطفية أَو مزاجية؛ بل كان قرارًا واعيًا متجذرًا في ذاكرةٍ تاريخيةٍ يَعرف فيها الناس قيمة العون حين تُستدعى الضمائر.

    واليمن – من شعبٍ ومؤسّساتٍ ومقاومةٍ – اختار أن يكون في طليعة مدافعي الحق رغم الجراح والضغوط، فكتب موقفًا يسجّل في صفحات التاريخ بمداد الوفاء.

    موقفٌ شعبيٌّ يتقدّم على كُـلّ اعتبار

    منذ اللحظات الأولى لتصاعد العدوان على غزة، خرجت الجماهير اليمنية بمسيراتٍ ووقفاتٍ وحشودٍ شعبيّة وإعلامية وسياسية تعبّر عن عمق التعاطف والالتزام القيمي.

    لم تكن هذه اللحظات مُجَـرّد مشاهدٍ عابرة تُسجّل للتدوين الإعلامي، بل كانت تجلٍّ لوعي جماعي يرى القضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزّأ من كرامة الأُمَّــة ومصيرها.

    الكلمات هنا لن توفي تعبّر القلوب؛ ففي ساحات المدن والقرى حمل الناس لافتاتٍ تدعو للنصرة، وافتقد الكثيرون لفرصة التحدث فتركوا أفعالهم تتحدث، فكانت الوقفات والمساعدات والتضامن الشعبي ترجمةً حقيقية لضميرٍ لم يتغيّر.

    هذا الحضور الشعبي كان عامل ضغط معنوي داخليًّا وخارجيًّا، وأبلغ رسالة مفادها أن اليمن لا يقف على الحياد عندما تُستباح كرامة شعبٍ أَو تُنتهك حقوقُ أُمَّـة بأكملها.

    وفي زمن تتراجع فيه الكلمات أمام مصالح تغلبت على قِيَمٍ بديهية، تصدّر اليمن المشهد عمليًّا ووجدانيًّا.

    الفعلُ السياسيّ والدبلوماسيّ: موقف لا يختبئ وراء الشعارات

    على صعيد المؤسّسات والسياسة، قدّم اليمن مواقف معبّرة وواضحة، مبتعدًا عن صيغ الالتفاف والمواربة.

    اتسمت مواقف قياداته بالتمسّك بمبدأ نصرة المظلوم ورفض التطبيع مع الاحتلال المجرم.

    هذا الصمود السياسي لم يأتِ من فراغ؛ بل كان ترجمةً لقطائعٍ تاريخيةٍ وسياسية راسخة، ولإرثٍ تحَرّكيٍ يحمل في طياته مسؤولية تمثيل خيارٍ شعبيٍ واسع.

    والرؤية هنا يجب أن تُفهم على نحوٍ لا يختزل السلوك الوطني في حالة طائشة من الفعل، بل يُراد بها أن تكون ممارسة للسيادة الأخلاقية في زمن تراجعت فيه كثير من السياسات إلى لغة المصالح الضيقة.

    وقد تجلّى هذا البُعد في الخطاب الرسمي والموقف العملي على حَــدٍّ سواء.

    الفعل الميداني: من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي.. ومن عمق الأراضي المحتلّة

    من ميزات موقف اليمن أنّه لم يكتفِ بالكلمة والخطاب وحدهما، بل كان له فعل عسكري ميداني ملموس على مستويات ومسافات بعيدة.

    تصدّر اليمن لواجب الدفاع والنصرة، وبدا ذلك واضحًا في الأفعال التي حملتها تحَرّكاته العسكرية البحرية، وفي المشاهد الميدانية التي شهدت حضورًا يمنيًّا في محاور بحرية بعيدة – في البحر الأحمر، والبحر العربي، وفي محيطات وممرّات مائية أبعد – وكذلك في مئات العمليات العسكرية المؤثرة التي امتدت إلى عمق المناطق داخل الأراضي المحتلّة، كلّها دون أن ندخل في تفاصيل تشغيلية أَو تكتيكية، حفاظًا على المسؤولية والحدود الأخلاقية للخطاب.

    الأمر الأهم هنا ليس عدد العمليات أَو ماهيتها التقنية، بل المَعنى الاستراتيجي والرمزي لها: أن دولةً أَو جبهةً مقصودةً بالحصار والعدوان لا تستكين، وأن خيار الردّ والدفاع عن المظلوم قد يتخذ أشكالًا متعددة اعتمادا على الإمْكَانات والقدرات.

    اليمن اختار أن يجعل من تواجدها الميداني رسالة مفادها: لا مهرب للمظلم من محاسبة الضمير الإنساني، وأن دورها في المشهد كان فاعلًا لا استعراضيًّا.

    الضغوط والتحالفات: محاولة كسر الإرادَة ولم تنجح

    لم تكن رهانات القوى المتحالفة مع العدوان على اليمن خاطئة في حسابها للواقع: لقد سعت التحالفات والضغوط المتعدّدة إلى عزل اليمن وقطع خطوط الدعم عنه، وإرهاقه اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا لثنيه عن موقفه.

    لكن اليمن، شعبًا ومؤسّساتٍ ومقاومةً، أثبت أن الإرادَة الوطنية لا تُكسر بالحصار وحده، ولا تُرهن بالتهديدات.

    إن الذي حدث خلال فترة الصراع أظهر أن محاولات الضغط قد قوّت التصميم في كثير من الأحيان، بدل أن تكسر العزيمة.

    وهنا يكمن درسٌ مهم: أن الشعوب حين ترى واجبًا أخلاقيًّا أمامها تتجاوز حسابات الخوف والخسارة.

    اليمن لم يتوقف عن موقفه حتى لحظة التوقيع على الاتّفاق بين المقاومة الفلسطينية والجانب الآخر في القاهرة؛ وهذا التاريخي يثبت أن الوفاء ليس مزاجًا بل قرارًا كوراثةٍ ثقافيةٍ ونمطٍ سلوكيٍّ جمعي.

    مقارنة مع المواقف العربية والإسلامية: اختبار الصدق

    الحرب على غزة كانت امتحانًا حادًّا لكل مكوّنات الأُمَّــة: حكوماتٍ، أحزابا، شعوبًا، ومنظمات.

    وبينما شهدنا تفاوتًا واضحًا في درجات التفاعل والتضامن، كتب اليمن مذكّرة أخلاقية صارخة أمام السجل الجمعي للأُمَّـة.

    ليس المقصود هنا تجريحًا عامًا، بل قراءةٌ صادقة لواقعٍ شهد تفاوتًا بين مواقفٍ اكتفت بالبيانات، ومواقفٍ ندّدت دون أن تعمل، ومواقفٍ قاتلت مع المظلوم حتى آخر لحظة.

    اليمن، في هذا السياق، أكّـد أن الموقف ليس فقط مُجَـرّد إعلان، بل أداء ومسؤولية.

    لقد أعاد تعريفًا عمليًّا للنصرة: نصرةٌ تتحوّل إلى فعلٍ عسكري يؤثر في توازنات المشهد، ويرسد رسالة واضحة عن الالتزام القيمي.

    دلالات الصمود اليمني: أكثر من معركة، رسالة حضارية

    التأمل في بَوصلة موقف اليمن يكشف عن أبعادٍ تتخطى الاعتبارات الآنية:

    أولًا: تأكيدٌ على أن الكرامة الوطنية تقاس بثبات الموقف حين تُستدعى القيم.

    ثانيًا: رسالة مفادها أن التضامن الشعبي يمكن أن يتحوّل إلى رافعة ضغط إقليمية مؤثرة.

    ثالثًا: أن مآلات التاريخ تُسجّل دائمًا أُولئك الذين اختاروا الحقّ لا الذين راهنوا على الزمن.

    صمود اليمن يُعيد للأذهان أن للأخلاق مكانة في الحراك الدولي لا يمكن تهميشها: فقد يكون لحظةٌ عابرة في المنطق السياسي لأنها ليست مربحة اقتصاديًّا، لكنها تبقى أبديةً في السجلّ الإنساني.

    الأثر الإقليمي والسياسي: تموضع جديد في وعي الأُمَّــة

    موقف اليمن أثّر – وسيؤثر – على خرائط التحالفات والتموضع السياسي في المنطقة.

    ليس لأنه غيّر توازن القوى بعيدان، بل لأنّه حرّك رافعات أخلاقية وسياسية قد تفرض نفسها كمعيارٍ للمقارنة في قادم الأيّام.

    الشعوب تراقب، والأنظمة تحسب.

    وقد يسجل التاريخ أن لحظة الوفاء اليمني فتحت أمام قطاعاتٍ من الرأي العام العربي نافذة للحكم على المواقف لا بالأقوال فحسب، بل بالأفعال.

    من جانب آخر، فإن هذا الموقف أعاد طرح سؤالٍ مركزي: ما قيمة التحالفات التي تُبنى على المصالح الضيقة حين تُهدّد بها ثوابت الأُمَّــة؟ الجواب الذي أعطاه اليمن عمليًّا هو أن الأُمَّــة تختزن دائمًا قوى قادرة على استنهاض الضمير حين يتعطل العقل الاستراتيجي لدى البعض.

    الخاتمة: البعد القيمي والأخلاقي – لماذا سيبقى اليمن في الذاكرة؟

    حين ينتهي الصراع وتُطوى صفحات الحملات الإعلامية، يبقى ما يُذكر به البشر على مرّ السنين: مَنْ وقف مع الحق ومَنْ خذل.

    اليمن اختار أن يقف، ليس لأن وراءه قوة اقتصادية أَو مصالحٍ آنية، بل لأنّ في تاريخه وبنيته الأخلاقية ما يُلزمه بالوفاء.

    هذه ليست مبالغة بل وصفٌ لواقعٍ تجلّى أمام أعيننا: أن موقفًا أخلاقيًّا واحدًا – حين يتّحد مع فعلٍ ميداني حتى حدود الممكن – قد يُعيد لبوصلة الأُمَّــة بوصلةً لمفرداتٍ لم تصبح قديمة: الشرف، النخوة، الإيثار، والوفاء.

    اليمن لم يمد يده طلبًا لمجدٍ زائف، بل مدّها دفاعًا عن كرامةٍ مُستباحة، وعن ذاكرةٍ شعبيّة تربّت على أن تكون مع الحق مهما عصفت الرياح.

    ولعلّ أجمل ما في هذا كله أن الوفاء اليمني لم يقف على حدود المصلحة؛ بل شكّل بيانًا حضاريًّا يقول إن الأُمَّــة حين تستيقظ فإنها تختار الإنسان قبل السياسة، والكرامة قبل الحسابات.

    وفي نهاية المطاف، سيُكتب التاريخ عن هذه المرحلة أن هناكَ من حمل راية الضمير حين أسقطها الآخرون، وأن هناكَ من بقي أوفى حين تهاوى الوفاء في سوق المصالح.

    واليمن – في هذه الوقفة – استعاد جزءًا من هويّة الأُمَّــة التي لا تقاس بميزان الربح والخسارة، بل بمدى التزامها بمبادئ إنسانيةٍ تسبق كُـلّ اعتبار.

    إن رسالة اليمن اليوم ليست نصرًا انتهازيًّا ولا إعلانًا لهيمنة جديدة؛ إنها دعوةٌ لقراءةٍ جديدةٍ للسياسة: سياسةٌ تُعطي الأولوية للضمير قبل المصالح، وللكرامة قبل التفاهمات العابرة.

    وسيظلّ اليمن – بكل صموده – مرآةً تُنير أمام الأُمَّــة درب الوفاء.

    “القدس في القلب، والكرامة لا تُقايض، والوفاء عنوان الأُمَّــة حين تعود لتذكر نفسها”.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    مبارك حزام العسالي

    spot_imgspot_img