شكّل انحياز المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين الوسط في غالبه، ثم اليمين المتطرف في جزء هام منه، توجهاً في مدى تراجع “الهستدروت” في وقت تداخل دور “الهستدروت” مع الإطار العام المؤسس فيه وهو حزب العمل.
يتركز البحث تجاه الكيان الإسرائيلي ومؤسساته غالباً على المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والتشريعية، لقياس مستوى التقدم أو التراجع في واقع كيان أقيم منذ أكثر من سبعة عقود، في بحر متلاطم من الحروب وسط غابة من الأعداء، وهذا طبيعي وهو يخالف كامل محيطه في شتى المجالات المكونة للمجتمعات والدول، وطبيعي أيضاً أن ينصب البحث على المؤسسات سالفة الذكر.
لكن هذه البحوث والمتابعات همّشت مؤسسات حيوية أخرى في الكيان، على الرغم من كونها أوعية مؤسِسّة لـ”دولة” الكيان، مثل الهستدروت والكوبات حوليم ومؤتمر هرتسليا البحثي وقطاع بنوك الهبوعليم والكيبوتسات، وغير ذلك من مؤسسات طالما عكس حالها مستوى قوة “دولة” الكيان وتفاعلاتها المجتمعية، ما يعرّي هذه “الدولة” ويكشف حقيقة أنها تعتاش على حساب الغرب والصناعات العسكرية والتكنولوجية وبرامج التجسس والذكاء الصناعي، مع تآكل قاعدة مؤسساتها ما يجعلها على “شفا جرف هار” كونها تمضي في وتيرة متسارعة نحو الفراغ الداخلي، فالدول والمجتمعات ترتكز على بنية صلبة من المكونات الاجتماعية والاقتصادية، وليس فقط على طفرات صناعية أو عسكرية.
يكشف تراجع ثقة المجتمع الإسرائيلي بالكنيست وهي المؤسسة التشريعية إلى 14%، والحكومة 20%، والشرطة 39%، والجيش 53% والقضاء 55%، حقيقة الأزمة التكوينية في نفسية المجتمع الإسرائيلي، وهي أزمة غير عارضة والدليل نجده في النظر إلى حال مؤسسات إسرائيلية أخرى، وهي مؤسسات وسيطة في الكيان ولأنها غير حاكمة على المستويين السياسي والأمني بشكل مباشر، فإن دراسة واقعها وقياس مدى تراجعها يشيران بشكل حتمي أن أزمة الكيان عميقة، وأنه يشهد تحولات جذرية وإن برزت قوته العسكرية والأمنية في صورة حروب وجبهات متعددة واغتيالات دقيقة خارج الحدود.
عند النظر إلى المؤسسات الوسيطة في الكيان الإسرائيلي، يلاحظ أن أغلبها تأسس قبل ولادة الكيان، وهذا يشير إلى حيوية هذه المؤسسات في بناء “الدولة”، وعندما تسجل تراجعات حيوية منهجية، من دون تطوير بدائل أو تحديد آليات مجتمعية أو رسمية، فإن هذا دليل على الفراغ الناشئ في عمق المجتمع والدولة، وهو السبب الرئيس في النظرة السلبية المتنامية إلى المؤسسات الرئيسة مثل الحكومة أو “الجيش”، فـ “الهستدروت” مثلاً وهي نقابة عمال “إسرائيل” والتي تأسست منذ عام 1920 ما يسبق ولادة الكيان بنحو 28 سنة، لعبت طوال عقود طويلة دوراً رئيساً في فاعلية الكيان، فما هي حال “الهستدروت” اليوم؟
يوضح تعدد مجالات عمل “الهستدروت” وأدواته التنفيذية مدى تشابك الدولة بالمجتمع، فهو اتحاد للتعاونيات، ومؤسسة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهيئة للتأمين الصحي، وجمعية لتقديم الخدمات الثقافية والتعليمية، ولذا تضم لجنته التنفيذية الإدارات التالية: التنمية والاستيعاب، المساعدة المتبادلة، التوظيف والتدريب المهني، العمال الأكاديميي، والشؤون الدينية، الشؤون العربية والتعليم العالي والتعويضات.
ولكن هذا التعدد المجالي الواسع بإدارات هستدروتية فاعلة، والذي كان بمنزلة العمود الفقري للاقتصاد العمالي الصهيوني، والذي قام منذ تأسيسه بإنشاء مستعمرات زراعية ومؤسسات صناعية، بدأ دوره يتراجع بشكل جوهري، ففي عام 1921 أسَّس “بنك هابوعاليم” (بنك العمال)، وبعد سنتين أسَّس شركة “هيفراه هعوفديم” أي شركة العمال، ومنذ عام 1927 ونشاط “الهستدروت” يتجه نحو تأمين رأس المال اللازم لإدارة مؤسساته الاقتصادية ويُعَد “الهستدروت” من كبار أصحاب العمل في “إسرائيل”، وظل كأكبر جسم اقتصادي في الدولة بجسم عمالي هائل نحو 400 ألف عامل في كيان كان تعداده قرابة ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، كأكبر مستخدم منفرد للعمال حتى التسعينيات، هو الآن مثار سؤال جاد حول مدى تهميشه والحط من دوره الاجتماعي والاقتصادي.
شكّل انحياز المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين الوسط في غالبه، ثم اليمين المتطرف في جزء هام منه، توجهاً في مدى تراجع “الهستدروت” في وقت تداخل دور “الهستدروت” مع الإطار العام المؤسس فيه وهو حزب العمل، أو التوجه الاشتراكي الصهيوني وهو توجه يكاد يندثر اليوم مع سيطرة حزب الليكود على الحكم غالباً منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، إضافة إلى بروز أحزاب أخرى طابعها ديني أو يميني وطني.
ولكن العوامل الحزبية والسياسية ليست هي الناظم الوحيد لهذا التراجع في فاعلية “الهستدروت”، فقد أدت الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية (1983–1985) نتيجة التضخم والأعباء الاجتماعية، إلى تكبّد “الهستدروت” ديونًا هائلة، واضطرت الحكومة إلى خصخصة الشركات التابعة لها ضمن خطة الاستقرار الاقتصادي، فيما لم تحل هذه الأزمة من دون قدرة “الهستدروت” على شلّ الدولة عام 1997 احتجاجاً على السياسة الاقتصادية لحكومة الليكود وميزانيتها، وهو ما لم يعد ممكناً بعد عام 2000 وخاصة بعد عام 2020، حيث فشل “الهستدروت” في القدرة على تنظيم إضراب عام واسع يشل “الدولة” كحاله سابقاً، ضد تهور نتنياهو في حرب الإبادة على غزة وتهميش قضية الأسرى الإسرائيليين في غزة طوال سنتين، ولا حتى في تغلب نتنياهو على القضاء قبل السابع من أكتوبر، على الرغم أنه سبق لنتنياهو وصف قادة “الهستدروت” بالقتلة المتوحشين، وقد جعلهم هدفاً لسياساته طوال ثلاثة عقود متصلة حتى أضعفهم.
ويتصدر أسباب تراجع “الهستدروت” في عدد أعضائه على سبيل المثال من نحو 50% من مجموع الكيان مع عوائلهم حتى الثمانينيات إلى ما لا يزيد على 10% منذ عام 2000، إلى فصل الكوبات حوليم وهي مؤسسة التأمين الصحي عن “الهستدروت”، ولكن ما هي حال هذه المؤسسة الصحية الهامة؟
تأسست كوبات حوليم كلاليت سنة 1911، وأصبحت الذراع الصحية للهستدروت بعد تأسيسه لاحقاً، تموّلها النقابة وتدير مستشفياتها، حتى شكّلت النموذج الأول للرعاية الصحية الجماعية قبل قيام “الدولة”، ولكنها بعد عام 2000 وعلى الرغم أنها ما تزال أكبر صندوق صحي (نحو 50٪ من السكان)، فإن حصتها السوقية تراجعت من 63٪ قبل 1995 إلى 50٪ بعد 2020، والسبب أنها فقدت المضمون الأيديولوجي-الاجتماعي وأصبحت أشبه بشركة خدمات تنافسية، خاصة بعد أن أقدمت على خصخصة بعض الخدمات والاعتماد على نماذج السوق، ما قلّل من مكانتها الرمزية كمؤسسة تضامنية، كما ظهر لها منافسة قوية من مكابي ومئوحيدت وليئوميت بفضل جودة الخدمات الرقمية والابتكار، بالنتيجة لم تعد كوبات حوليم مشروعاً وطنياً كما كانت، بل مزود خدمات طبيّة في سوق تنافسي، ما يعني تراجع دورها المجتمعي لا الوظيفي.
والحال مع “الهستدروت” كما “الكلاليت”، يظهر عند النظر في واقع الكيبوتسات والتعاونيات الزراعية، والتي كانت النواة الاقتصادية والاجتماعية لـ”الدولة” الصهيونية، ورمز الاشتراكية الصهيونية في فترة ما قبل “الدولة” وحتى السبعينيات، إذ إن الانفتاح الاقتصادي منذ الثمانينيات جعل الزراعة قطاعاً ثانوياً، خاصة بعد هجرة الأجيال الشابة إلى المدن وخصخصة الكيبوتسات، ما غيّر طبيعتها الجماعية، لتصبح اليوم أغلب الكيبوتسات مجرد بلدات شبه خاصة ذات اقتصاد خدماتي أو صناعي محدود، بالخلاصة تراجعت من دورها كنمط حياة وأيديولوجيا وطنية إلى مجرد وحدات سكنية-اقتصادية صغيرة.
وكذلك الحال يظهر في حيوية مراكز الأبحاث والفكر مثل INSSومركز موشيه دايان ومؤتمر هرتسيليا، والتي كانت مراكز التأثير الفكري-الأمني، ويظهر تراجعها النسبي في تسييس بعض الجامعات وصعود مؤسسات يمينية أو دينية بديلة ما قلّل من تأثيرها الموحد، إضافة إلى تراجع التمويل الحكومي ما جعلها تعتمد أكثر على تبرعات خاصة من وجهات أجنبية، في ظل صعود الشركات التكنولوجية وهو ما أدى إلى سحب جزء من دور البحث الأكاديمي نحو القطاع الخاص.
وكان مؤتمر هرتسيليا المختص في المناعة الفكرية الأمنية، تأسس عام 2000 ليكون رافعة للبحث العلمي والسياسي الاستراتيجي بعد جملة من التراجعات العامة في جذور “الدولة”، عندما مثّل منصة نخبوية لصوغ الرؤى الأمنية-الاستراتيجية الإسرائيلية، وكان يُنظر إليه كـمختبر للعقيدة الأمنية والسياسية، وقد برزت فيه شخصيات مثل نتنياهو وشارون وبيريس، إضافة إلى شخصيات غربية مثل كيسنجر وتوني بلير وكلينتون، وتحوّلت خطبه إلى إشارات لسياسات “الدولة”، مثل إعلان فك الارتباط مع غزة 2005، أو التحشيد الفكري لأكثر من عقدين ضد الخطر الإيراني.
بدأ التراجع في فاعلية مؤتمر هرتسيليا بعد 2018-2020، عقب تعدد المنتديات البحثية والسياسية ( مثل معهد INSS ومؤتمر معهد دراسات الأمن القومي في “تل أبيب” ما قلّل من تفرده، إضافة إلى التسييس المتزايد وقد أصبحت مشاركاته مرتبطة أكثر بالأحزاب الحاكمة أو بقطاع رجال الأعمال، وبعد تراجع الحضور الدولي بعد جائحة كورونا والحروب الأخيرة، إذ غابت عن جلساته شخصيات أوروبية وأميركية مهمة، وانتقال بعض صناع القرار إلى مؤتمرات أكثر تخصصاً في التكنولوجيا والدفاع السيبراني والمناخ.
وظهر مؤتمر هرتسيليا عام 2024 بشكل باهت على الرغم من انعقاده في أوج الحرب على غزة ولبنان وحضور وزيرة خارجية ألمانيا في ظل تنامي الدور الألماني لصالح سياسات الكيان، ويبدو أن ما تسبب في ذلك مستوى البون الشاسع بين مطارحات ذلك المؤتمر طوال عقدين، وبين التحولات التي عصفت بالكيان خلال هذه الحرب، وهي تحولات تناقض أصول التفكير الاستراتيجي التي انطلق منها هذا المؤتمر باعتبارها بديهيات فكرية.
وفي عام 2025 كان يفترض أن يتمم هذا المؤتمر ربع قرن من عطائه، في ظل انعقاده خلال شهر حزيران المعلن عنه رسمياً على منصة موقع المؤتمر الإلكتروني، وهو الموعد الذي لم يتحقق واقعاً بسبب القصف الإيراني الهائل لمركز وايزمن العلمي، وذلك قبل موعد انعقاد مؤتمر هرتسيليا بأسبوع واحد، خاصة مع التقارب الجغرافي لموقع المركزين، وتخصص مؤتمرات هرتسيليا بالموضوع الإيراني بشكل لافت، والغريب أن المركز لم يوضح أسباب عدم انعقاد جلساته المعلن عنها سابقاً في الموقع الإلكتروني المختص ذاته، ما ترك فراغاً وسؤالاً كبيراً عن حقيقة دور هذا المركز ومستقبله بعد أن فقد دوره كـمؤتمر توجيه استراتيجي قومي، ليصبح منتدى أكاديمياً-إعلامياً نخبوياً محدود التأثير التنفيذي.