أخطر ما يهدد وجود أي أمة هو أن يتمكّن عدوها من تنصيب عملائه حكّامًا عليها، ليتولّوا مهمة تقويض منظومتها الأخلاقية وهدم أسسها من الداخل. لم يتمكّن الموساد الإسرائيلي من إكمال مخططه في إيصال المدعو عبد الرحمن البيضاني إلى سدة الحكم في اليمن، لان دوره التخريبي كان واضحًا ومكشوفًا للعيان.
وقد أدرك ثوار السادس والعشرين من سبتمبر خطورته، فأجمعوا “بعد ثلاثة أشهر فقط من قيام الثورة” على عزله من مناصبه التي جمعها في آنٍ واحد “نائب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ووزير الخارجية” رغم إصرار أنور السادات على الإبقاء عليه حتى اللحظة الأخيرة.
الدور التخريبي الخطير الذي مارسه المخبر الموسادي هادي عيسى في تمزيق النسيج الاجتماعي بدمويّته العبثية لا يرقى إلى مستوى خطورة الدور الذي أدّاه عبد الرحمن البيضاني، رغم أن ارتباط هادي عيسى بالموساد لم يُكتشف إلا في وقت متأخر من عام 1966، حيث جرى إعدامه عقب انكشاف تلك العلاقة.
لذلك، لم تكتفِ القبائل اليمنية بقرار عزل المدعو عبد الرحمن البيضاني من مناصبه في يناير 1963، بل بادرت إلى عقد مؤتمر عمران في سبتمبر من العام نفسه، بمشاركة واسعة من مختلف القبائل والمكوّنات السياسية اليمنية، وبمباركة من قيادات الجمهوريين والملكيين على حدٍّ سواء.
وقد جاء ذلك المؤتمر لإعلان البراءة منه وتجريده من الجنسية اليمنية، لكونه لا ينتسب إلى أبٍ يمني بالولادة، بل بالتبنّي، وهو ما تحرّمه الشريعة الإسلامية بنصٍّ قرآنيٍّ صريح. بعد ذلك، تعرّف الموساد الإسرائيلي على عفاش في عام 1972 بمدينة أسمرا أثناء مرافَقته للغشمي في رحلةٍ علاجية، وهناك وجد فيه الموساد ضالّته، فقام بتجنيده ورعايته تدريجيًا حتى أوصله إلى سدّة الحكم عام 1978، ليواصل تنفيذ المهمة التخريبية لبنية المجتمع اليمني التي كان البيضاني قد بدأها من قبل.
ولتفادي انكشاف دوره التخريبي كما حدث مع المدعو البيضاني، حرص الموساد على تقديم عفاش بصورة الشخصية الشعبية البسيطة القريبة من عامة الناس، ليتمكّن من العمل بصمت على هدم المنظومة الأخلاقية والثقافية للمجتمع اليمني من الداخل، دون أن يثير الشبهات حول ارتباطاته أو أهدافه الحقيقية.
إنّ التزام عفاش بمبدأ التخلّص من الخصوم والشخصيات الوطنية بعد التصالح معهم، واستخدامه أساليب القتل البطيء عبر مواد سامة كـ البولونيوم التي استخدمها الموساد لاغتيال ياسر عرفات والتي لا تترك اي اثر، يكشف بوضوح الوجه الخفي لشخصيته ذات النزعة الموسادية.
كما يفسّر ذلك حالة الازدواج الغامضة في سلوكه وشخصيته، التي حيّرت المراقبين لسنوات طويلة بين ما يُظهره من وُدٍّ وتقارب، وما يُخفيه من غدرٍ وخيانةٍ ممنهجة.
مع اقتراب لحظة التخلص من مخبر الموساد الاسرائيلي بعد ثورة ٢٠١١ تدخل الخارج لايصال مخبر جهاز الاستخبارات البريطانية M16 للحكم, وعندما اصبح شبه عاجزا عن اداء مهامة تم عزله وتعيين مخبر السي اي ايه الامريكي.
لم يكن غريبًا أن يكون النظام السعودي أداةً بيد أعداء اليمن لتمكين مخبريهم من الوصول إلى أعلى هرم السلطة، إذ إن ضرب استقرار اليمن وإعاقته عن النهوض يمثّل مصلحةً مشتركة للنظام السعودي من جهة، ولأمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني من جهةٍ أخرى.
لقد أدرك الشاعر عبدالله البردوني مبكرًا خطورة الدور الذي كان يمارسه النظام السعودي، فعبّر عن ذلك بحدّة شعرية ونبرةٍ يعتصرها الألم في قصيدته الشهيرة “الغزو من الداخل”، حيث أشار إلى النظام السعودي باسم “أمير النفط”، كنايةً عن هيمنة المال والنفوذ على القرار اليمني.
لولا وجود القاضي عبدالرحمن الإرياني بما امتاز به من صبرٍ وحكمةٍ وصلابةٍ في مواجهة الضغوط المصرية والسعودية آنذاك، ولولا وعي الشعب اليمني ويقظته، لما استطاع اليمن أن يتجاوز فتنة المدعو البيضاني، الذي لم يصل إلى قمة السلطة إلا لوقتٍ قصير لم يتجاوز ثلاثة أشهر.
فكيف كان سيكون حال اليمن اليوم وقد ورث تبعات حكم ثلاثة مخبرين لأعدائه على مدى نصف قرنٍ من الزمن، لولا بزوغ المسيرة القرآنية التي أعادت للأمة وعيها وبوصلتها؟ قبل عهد عفاش، كان المسافر أو المغترب اليمني يحظى باحترامٍ وتقديرٍ استثنائيين في مختلف البلدان العربية والإسلامية التي يمر بها، إذ كان حضور الشخصية اليمنية يعني حضور الوفاء والصدق والأمانة والشجاعة.
غير أنّ تلك النظرة الإيجابية بدأت تتبدّل تدريجيًا خلال فترة حكم عفاش وما خلّفه من شلة، فتراجعت مكانة اليمني في أعين الآخرين.
ولم تستعد الشخصية اليمنية بريقها واحترامها إلّا مع بزوغ المسيرة القرآنية، التي أعادت إليها قيمها الأصيلة، لا على المستوى العربي والإسلامي فحسب، بل حتى على المستوى العالمي، إذ صدق القول العربي القديم: “الناس على دين ملوكهم.
ــــــــــــــــــــــ
محمد البخيتي