في عمليةٍ استخباراتية نوعية حملت اسم (ومكر أولئك هو يبور)، تمكنت الأجهزة الأمنية في صنعاء من إسقاط شبكة تجسس واسعة تعمل لصالح المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والسعودية، كانت مكلفة بمهام عسكرية واستخباراتية دقيقة داخل العاصمة وعدد من المحافظات.
وقد كشفت اعترافات أفراد الشبكة تفاصيل مثيرة حول أساليب التجنيد والتدريب والتقنيات المستخدمة في جمع المعلومات وتنفيذ عمليات الاستهداف التي طالت منشآت حيوية ومواقع عسكرية ومدنية.
مرحلة التجنيد والاختراق الاجتماعي
بحسب الاعترافات، بدأت عملية الاختراق عبر غطاء مدني ومنظمات تعمل في مجالات التنمية وحقوق الإنسان، حيث استخدم الجواسيس واجهات مثل منظمة “قُدرة للتنمية المستدامة” ومنظمة “دار السلام” لتجنيد العناصر وتدريبهم في دورات ظاهرها “التمكين المدني” وباطنها جمع المعلومات لصالح جهات استخباراتية أجنبية.
وأكد أحد المتهمين أنه تلقى تدريبات بين عامي 2018 و2019 في الأردن وإثيوبيا والقاهرة بتمويل وإشراف مباشر من المعهد الجمهوري الدولي (IRI) ومركز الأديان والدبلوماسية (ICRD)، وأن هذه الدورات كانت واجهة لنشاط استخباراتي منظم يهدف إلى زرع مصادر داخل المؤسسات التنفيذية اليمنية تحت ذريعة “رفع القدرات الإدارية”.
التجنيد عبر السعودية ودور المخابرات الأجنبية
أوضحت الاعترافات أن عدداً من أفراد الشبكة تم تجنيدهم عبر ضباط سعوديين وأجانب أثناء تواجدهم في الرياض والقاهرة، حيث جرى التواصل معهم من قبل شخصيات تحمل أسماء حركية مثل “أبو سيف”، “أبو عامر”، “عبد الله السعودي”، “سعد”، و”جون” الأمريكي.
وخضع المجندون إلى دورات مكثفة في فنون التجسس والمراقبة الإلكترونية داخل العاصمة السعودية، استمرت لأسابيع وتضمنت تدريباً عملياً على تصوير المواقع الحساسة، استخدام تطبيقات تحديد المواقع، وتنفيذ بث مباشر عبر أجهزة تجسس متطورة تم تزويدهم بها.
وأفاد أحد العناصر أنه تم تدريبه على يد ضباط أمريكيين في “شاليهات حي العارض” بالرياض، حيث تعلم كيفية استخدام أجهزة مزروعة في سيارات معدلة، وكاميرات مخفية داخل ريموتات سيارات وأجهزة صغيرة بحجم راحة اليد، موصولة بشبكات إنترنت سرية مرتبطة بالخوادم الاستخباراتية الأجنبية.
المهام الموكلة للشبكة
تنوّعت المهام بين رصد واستطلاع وتحديد أهداف عسكرية ومدنية، كان من أبرزها:
- جمع المعلومات عن قيادات الدولة السياسية والعسكرية والأمنية من الصفين الأول والثاني.
- استطلاع مواقع تابعة للقوة الصاروخية والطيران المسيّر ورصد تحركاتها.
- رصد مواقع تدريب ومعسكرات تابعة للجيش اليمني وأنصار الله.
- تحديد مواقع إطلاق الصواريخ ومنشآت تصنيع المسيرات.
- تصوير مبانٍ حكومية وجوامع ومقرات إعلامية ومؤسسات سيادية داخل صنعاء.
واعترف أحد العناصر أنه نفذ ما يقارب 100 مهمة استطلاع وتصوير، من بينها رصد 25 مبنى حكومياً وسكنياً، و23 منزلاً، وستة جوامع، باستخدام سيارات مزودة بكاميرات خفية وأجهزة إرسال متصلة بخوادم استخباراتية خارج البلاد.
كما بيّنت التحقيقات أن الصور والفيديوهات والبيانات المرسلة كانت تُستخدم في تخطيط وتنفيذ ضربات جوية على أهداف مدنية، منها استهداف السجن الاحتياطي ومستشفى الرسول الأعظم في صنعاء خلال فترات العدوان السابقة.
التمويل وأساليب الدعم اللوجستي
كشفت الاعترافات أن الشبكة كانت تتلقى تمويلاً شهرياً بالريال السعودي أو الذهب عبر وسطاء في الرياض والقاهرة، وبتنسيق مباشر من ضباط سعوديين.
أحد الجواسيس ذكر أن آخر دفعة مالية استلمها كانت 20 جراماً من الذهب تعادل راتبين، أُرسلت إليه عبر “طرد” عشية عيد الأضحى عام 2024، بعد أن واجهت المخابرات السعودية صعوبة في تحويل الأموال إلكترونياً بسبب القيود الأمنية.
الجانب التقني والتجسسي
خلال التحقيقات، تم ضبط أجهزة تجسس متقدمة تضمنت:
- كاميرات دقيقة الحجم مموهة داخل ريموتات سيارات وأزرار وديكورات داخلية.
- أجهزة بث مباشر مرتبطة بخوادم خارجية عبر شرائح اتصالات سعودية.
- خزانات بيانات سوداء (black devices) مزودة ببطاريات قوية وتوصيلات سرية لنقل البيانات.
- أجهزة لالتقاط إشارات الواي فاي والبلوتوث ضمن مدى 200 متر لجمع البيانات من الهواتف والحواسيب القريبة.
كما تم العثور على سيارات معدلة هندسياً تحتوي على كاميرات مدمجة في السقف وديكورات المقصورة، وأجهزة سيرفر مزودة بمودمات وشبكات تخفي إشاراتها، تُستخدم لبث الصور والفيديوهات مباشرة إلى الضباط المشرفين في السعودية.
النتائج الأمنية والدلالات الإستراتيجية
أظهرت التحقيقات أن الشبكة كانت جزءاً من منظومة تجسس دولية تديرها المخابرات الأمريكية عبر واجهات سعودية، تهدف إلى إضعاف الجبهة الداخلية اليمنية واستهداف البنية الدفاعية.
وقد عملت المخابرات الإسرائيلية – وفق الأدلة التقنية – على دعم الجانب التكنولوجي واللوجستي، خصوصاً في أنظمة التحكم عن بُعد وأجهزة الرصد الحراري والبث المباشر.
كما سعت الشبكة إلى اختراق المؤسسات الإعلامية والاجتماعية والثقافية، لاستخدامها في الحرب النفسية وجمع المعلومات الميدانية.
الختام: فشل الاستخبارات الأجنبية وانتصار الأمن الوطني
إن عملية (ومكر أولئك هو يبور) تمثل ضربة قاصمة لأجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والسعودية التي حاولت زرع أعينها داخل صنعاء عبر واجهات مدنية ومنظمات تنموية، إلا أن يقظة الأجهزة الأمنية اليمنية أحبطت هذا المخطط قبل اكتماله.
وقد أكدت التحقيقات أن هذه الشبكة لم تكن سوى حلقة في مشروع تجسسي أكبر يستهدف اليمن أمنياً وسيادياً وسياسياً، غير أن العملية الأمنية النوعية أثبتت أن وعي الأجهزة اليمنية قادر على إفشال كل محاولات الاختراق والتآمر.
إنها مواجهة استخباراتية بامتياز، أُديرت بعقول باردة وصبر أمني طويل، وانتهت بانتصار يمني كبير، وبخسارة فادحة للعدو الذي أراد أن يعبث بأمن صنعاء وسيادتها، فخاب مكره وباءت عمليته بالفشل الذريع.
