في زمن تتكالب فيه القوى الدولية على منطقتنا، وتتزاحم فيه الإمبراطوريات الحديثة لإعادة رسم خرائط النفوذ والسيطرة، تبرز حقيقة أَسَاسية لا يمكن تجاوزها: إن وحدة الأُمَّــة الإسلامية والعربية ليست فكرة مثالية، بل مشروع قوة لو تحقّق لغيّر ميزان العالم، ولأعاد صياغة النظام الدولي من جديد.
فالأُمَّةُ الممتدة من المحيط إلى الخليج، التي تمتلك أهم موقع جغرافي على وجه الأرض، وتتحكم في أكثر طرق التجارة والطاقة حساسية، وتضم أكثر من مليار إنسان، قادرة – إن توحدت – على هزيمة أمريكا وكل حلفائها الغربيين، وقادرة على إسقاط الكيان الإسرائيلي الذي يعيش على الدعم الخارجي، ويعتمد في بقائه على التفوق العسكري المستورد والغطاء السياسي الأمريكي اللامتناهي.
إن الكيان الإسرائيلي اليوم يمارس اعتداء يوميًّا على دول عربية وإسلامية دون أن يواجه أي ردع حقيقي.
يقصف، ويغتال، ويخترق الأجواء والسيادات، ويواصل جرائمه في فلسطين ولبنان وغزة واليمن وغيرها؛ لأَنَّه يدرك أن الأنظمة الرسمية العربية غارقة في التشتت، وأن المنظومة الدولية منحازة بالكامل لصالحه، وأن الولاياتِ المتحدةَ جاهزةٌ دائمًا لمده بالسلاح والغطاء السياسي في مجلس الأمن، حَيثُ يتحول الفيتو الأمريكي إلى درع دائم لا يُخترق.
هذا الكيان لا يحترم ميثاق الأمم المتحدة، ولا يخضع لقرارات مجلس الأمن، ولا يلتزم بأي اتّفاقيات دولية؛ لأَنَّه يقوم على القوة القاهرة والعربدة العسكرية، وعلى خطاب لا يعترف بحقوق الشعوب ولا بسيادة الدول.
ومع هذا الواقع، يقدم القرآن نموذجًا عمليًّا لصناعة القوة والانتصار، نموذجًا يتكرّر عبر التاريخ ويصلح لكل زمان.
ففي قصة بني (إسرائيل)، حين تردّد القوم عن مواجهة الجبارين، ظهر رجلان مؤمنان فقط، بلا مناصب ولا وجاهة، وقالا كلمةً حاسمةً رسمت خطة عسكرية واضحة: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
كانت تلك الكلمة هي الخطة الصحيحة، وتمثل الاتّجاهَ الذي يريدُه الله لبني (إسرائيل).. لم يقلها الملأ، ولم يتبنّها الوجهاء، بل صدرت من رجلين مجهولين إلا بإيمانهما وبصيرتهما.
ومع ذلك، سجل الله كلامهما كما سجل كلام موسى (عليه السلام)، ليكون درسًا خالدًا: ليست الكثرة معيارًا للحق، وليست الألقاب معيارًا للحكمة، وقد يأتي النور من رجل بينما يسكت آلاف.
لقد تجاهل بنو (إسرائيل) تلك الخطة وقالوا: {لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا}، فكان عقابهم التيه أربعين سنة.
وكأن القرآن يقول للأُمَّـة اليوم: إن التخاذل عن مواجهة العدوّ، والانتظار حتى يتحَرّك الجميع، وتعليق المواقف على إجماع القوى والرموز، هو طريق الضياع، لا طريق النصر.
النصر يبدأ من كلمة صادقة، ومن موقف شجاع، ومن خطة يضعها أهل البصيرة ولو كانوا قلة.
وهذا ينطبق تمامًا على واقع الأُمَّــة في مواجهة المشروع الأمريكي-الغربي والاحتلال الإسرائيلي.
فالأمة ليست بحاجة إلى بيانات عامة، بل بحاجة إلى صوت يعرف طبيعة الصراع، ويدرك أن القوة لا تُبنى بالحياد والصمت، بل بالموقف والعمل.
الكثير من العلماء صامتون، والكثير من السياسيين محكومون بالحسابات الضيقة، والكثير من المثقفين يخشون المواجهة، بينما يظهر القليل ممن يقولون إن مواجهة أمريكا وكَيان الاحتلال ضرورة شرعية وإنسانية وسياسية، وإن الاستسلام للهيمنة ليس خيارًا.
هؤلاء يشبهون الرجلين المؤمِنَين اللذين ذكرهما القرآن؛ فالكلمة التي تُقال؛ مِن أجلِ الحق قد تكون عند الله أوزن من آلاف الكلمات المحبوسة خلف الخوف والمجاملة.
إن الأُمَّــة التي تملك تاريخ الرسالات، وأرض الأنبياء، وموارد الطاقة، وطرق التجارة العالمية، وعشرات الجيوش، وموقعًا استراتيجيًّا لا مثيل له، قادرة على فرض معادلة جديدة لو اجتمعت على كلمة واحدة.
ولو توحدت الأُمَّــة العربية والإسلامية، واصطفت خلف القيادة الحكيمة المتولية لنهج آل البيت (عليهم السلام)، وتحت قيادة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (حفظه الله)، وتمسكت بكتاب الله، لما بقي الكيان الإسرائيلي يومًا واحدًا دون حماية أمريكية.
ولو اتحدت الإرادَة العربية والإسلامية، لسقطت كُـلّ مشاريع التفتيت والوصاية، ولأصبح الاحتلال عِبئًا لا يستطيع الصمود.
وما دام القرآن يؤكّـدُ أن النصرَ يقومُ على التوكل والعمل والاقتحام، فَــإنَّ الطريق واضح: خطة صحيحة، وثقة بالله، وعدم انتظار المتخاذلين.
إننا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء في حالة التيه السياسي، أَو استلهام الحقيقة القرآنية وتجارب المقاومة المعاصرة بأن الإرادَة الواحدة أقوى من سلاح العدوّ، وأن الأُمَّــة إذَا دخلت الباب بقوة وإيمان ستكون هي الغالبة، وأن التوكل على الله ليس شعارًا يُرفع، بل استراتيجية عمل وصناعة قرار.
النصر لا يتحقّق بقوة الخطاب الدبلوماسي، بل بقوة الموقف.
