لم تكن ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر بدايةَ صراع جديد بقدر ما كانت نهايةَ مرحلة كاملة من الفوضى والانقسام والارتهان.. لقد وصلت اليمن إلى نقطة لم يعد فيها الوطن قادرًا على احتمال مزيد من العبث، وتصدعت مؤسّسات الدولة حتى انكشفت تمامًا أمام أعين المواطنين، وتحولت العاصمة صنعاء إلى مدينة تبحث عمن يحميها بعدما فقدت السلطة القدرة على حماية نفسها.
كانت الوزاراتُ تشتعل بالنزاعات وتحترق كأنَّها منشآت بلا صاحب، وكانت الشوارع تتحوّل إلى متاريس تصطفُّ فيها القوى المتصارعة، بينما ينتقل السلاح بين الأحياء ويقف المواطنون في المنتصف، لا يعرفون من يحكم ومن يقرّر، ولا من يدافع عن مَن!
كانت المدينة تتهاوى بينما القوى السياسية منشغلة بحساباتها وبناء اصطفافاتها وتوسيع نفوذها على حساب وجود الدولة نفسها.
وجاءت الضربات الأمنية الدامية كفصول إضافية تكشف عمق الانهيار؛ فالهجوم الذي ضرب العَرَضَ العسكري لقوات الأمن المركزي في ميدان السبعين كشف هشاشة المؤسّسة العسكرية، واقتحام مجمع العُرْضي من قبل العناصر التكفيرية أظهر عمق الفراغ في منظومة الحماية والأمن.
كما شهدت مساجد بَدْر والحشحوش ارتقاء المصلين شهداءَ في صلاة الجمعة، ليعرف الناس أن العاصمة التي كانت مركز القرار لم تعد تملك أي قرار، وأن الدولة التي وقفت على المسرح سنوات طويلة اكتشفت فجأة أنها مُجَـرّد واجهة بلا أَسَاس.
وزادت الحوادث الغامضة من الاضطراب؛ فقد تساقطت الطائرات العسكرية في قلب المدينة بطريقة جعلت اليمنيين يعيشون شعورًا بأن السماء نفسها لم تعد آمنة، وأن الجيش الذي كان رمزًا للسيادة أصبح هو الآخر جزءًا من المشهد المضطرب، لا قوة مستقلة تحمي الوطن.
وسط هذا الفراغ السياسي والأمني، تشكَّلت لحظة إدراك جماعي بأن اليمن يتجه نحو انهيار شامل، وأن الانتظار يعني ترك العاصمة تسقط في يد الفوضى، وأن مراكز النفوذ التي تدعي حماية الدولة هي التي تتقاسمها وتدفعها نحو الهاوية.
وهنا، جاءت ثورةُ الحادي والعشرين من سبتمبر كفعل تصحيح تاريخي فرضته معادلةُ الفراغ، لا معادلة القوة؛ إذ وجدت قوةٌ جديدةٌ نفسَها مضطرَّةً للدخول إلى قلب المشهد لإيقاف الانهيار قبل أن يتحوَّلَ إلى كارثة لا عودة منها.
ومع بداية العدوان السعوديّ-الأمريكي، دخل اليمنُ مرحلةً جديدةً من الاستهداف المباشر، وتحوَّلت بعضُ القوى المحلية إلى أدوات في يد الخارج، وتحولت المعركة من صراع سياسي محلي إلى صراع إقليمي يستخدم الساحة اليمنية كساحة نفوذ، بينما كانت الأطرافُ التي عجزت عن حماية صنعاء سابقًا تحاولُ استعادتَها بدعم خارجي، لا بعقيدة وطنية.
ومع طول أمد العدوان، بدأت الأوراقُ تتكشّف واحدةً بعد أُخرى، لكن أخطرها كانت الورقة التي ظهرت في نهاية العام، وتحديدًا في الثاني من ديسمبر 2017، وهي اللحظة التي حاول فيها تحالف العدوان السعوديّ-الأمريكي تنفيذَ أكبر عملية تفجير داخلي في قلب العاصمة عبر تحريك طرف سياسي كان جزءًا من المشهد لسنوات طويلة، قبل أن يتحوَّلَ في لحظة فارقة إلى رأس حربة في مشروع خارجي يهدفُ إلى إسقاطِ صنعاء من الداخل.
بدأت أحداثُ ديسمبر بسلسلة تحَرُّكات سياسية وإعلامية مفاجئة، وانتهت بمحاولة انقلاب مكتملة العناصر.
كانت الخطة تقوم على شطر الجبهة الداخلية وإعادة ترتيب مشهد السلطة بما يناسب حسابات الخارج، وليس حسابات اليمن.
وقد جرى استغلال حالة الحرب والضغط العسكري لإقناع بعض القوى بأن اللحظة مناسبة للقفز خارج الصف الداخلي وخلق اصطفاف جديد تشرف عليه عواصم تحالف العدوان.
وفي أَيَّـام قليلة، انفجرت الأزمة داخل العاصمة، واندلعت مواجهات في عدد من الأحياء، وتوترت مؤسّسات الدولة، وتصدعت بعض الصفوف، وبدأ الإعلام الخارجي في تغذية المشهد؛ باعتبَاره “انتفاضة”، لا باعتبَاره محاولة تمرد هدفها إعادة اليمن إلى ما قبل الحادي والعشرين من سبتمبر، بل وإعادته إلى مرحلة الهيمنة الخارجية الكاملة.
لكن ما حدث لم يكن مُجَـرّد صراع سياسي، بل كان أخطر محاولة لاختراق الداخل وإسقاط العاصمة عبر تفجيرها من الداخل، بالتزامن مع تصعيد عسكري خارجي واسع.
وكان هذا المخطّط يمثل الورقة الأخيرة والأخطر في يد العدوان؛ لأَنَّ سقوط صنعاء من الداخل كان يعني سقوط المشروع الوطني، وسقوط الدولة، وتكرار مشهد “الصوملة” الذي كان يهدّد اليمن منذ سنوات.
ومع ذلك، لم تستمر أحداث ديسمبر طويلًا؛ فقد تمكّن اليمنيون من احتواء الأزمة خلال أَيَّـام قليلة، وانتهت المغامرة قبل أن تتحول إلى حرب داخلية شاملة.
وأُغلق الباب أمام أخطر محاولة لضرب الجبهة الداخلية منذ بداية الحرب، وفشل الرهان الخارجي الذي اعتمد على انقسام الداخل، كما اعتمد سابقًا على انهيار الدولة.
لقد كان الثاني من ديسمبر 2017 اختبارا لدرجة الوعي الوطني الذي تشكّل خلال سنوات العدوان والحصار.
فقد فهمت القوى الرئيسية أن الصراع الداخلي هو الهدية التي ينتظرها العدوان، وأن أي انقسام داخلي يعني تكرار تجربة الانهيار الذي سبق سبتمبر، وأن الدولة لا يمكن أن تعود إذَا عاد الداخل إلى التمزق الذي أسقطها من قبل.
وهكذا، كشفت أحداث ديسمبر أن اليمن، رغم الجراح، صار أكثر إدراكًا لمصيره، وأن الوَحدة الداخلية ليست خيارًا سياسيًّا، بل ضرورة وجودية، وأن حماية صنعاء ليست حماية لحزب أَو جماعة، بل حماية لبقية الدولة التي قد لا يصمد منها شيء إذَا عاد الانقسام إلى قلب العاصمة.
واليوم، وبعد كُـلّ تلك الأحداث، تبقى اليمنُ أمام سؤال واحد لا يتغيّر: كيف يمكنُ بناء دولة مستقلَّة تملِكُ وحدَها قرارَها؟ وكيف يمكن حمايةُ ما تبقى من الوطن في مواجهة مشاريع الخارج التي لا تزالُ تبحَثُ عن نوافذَ لاختراق الداخل؟ وكيف يمكن الحفاظُ على الوعي الذي تشكَّل بعد سبتمبر وديسمبر؛ لأَنَّه هو السَّدُّ الأخير في وجه العودة إلى الفوضى والارتهان والانهيار؟
