لا تُقرأ مشاهد الاقتتال في المحافظات الجنوبية المحتلّة بوصفها انفجارًا عفويًّا للفوضى، ولا كنتيجة أخطاء محلية معزولة، بل؛ باعتبَارها فصلًا مكتمل الأركان من كتاب الاحتلال الحديث؛ ذلك الكتاب الذي لا يكتب سطوره بالجيوش النظامية وحدها، بل بالأدوات، وبإدارة الصراع بدل حسمه، وبهدم الكيانات من الداخل قبل السيطرة عليها من الخارج.
في هذا المشهد، لا تبدو البنادق موجَّهة عشوائيًّا، ولا الأزمات وليدة المصادفة.
كُـلّ ما يحدث هو ثمرة منطق بسيط وخطير: حين تُفكك الدولة، وتُكسر الهُوية الجامعة، وتُستبدل المؤسّسات بالمليشيات، يصبح الصدام بين الأدوات حتميًّا.
فالاحتلال لا يصنع حلفاءَ حقيقيين، بل وظائف مؤقتة، وما إن تتقاطع المهام أَو تضيق الغنائم، حتى يبدأ الافتراس المتبادل.
ما يجري في الجنوب هو صراع بلا مشروع، ومعارك بلا أفق، وانتصارات بلا معنى.
أطرافٌ تتبدل أسماؤها وتتشابهُ وظائفها، ترفع شعارات محلية، لكنها تتحَرّك ضمن سقفٍ مرسوم خارج الجغرافيا والتاريخ.
لا أحد يقاتل مِن أجلِ بناء دولة، ولا أحد يحملُ تصورًا لمستقبل الناس؛ جميع العملاء يقاتلون مِن أجلِ “اللحظة”؛ مِن أجلِ نقطة نفوذ، أَو موقع، أَو اعتراف خارجي يمنحُه هامشًا إضافيًّا من البقاء.
هنا تحديدًا، تقوم اليد التي لا تُرى بتدوير العجلة.
فالاحتلال لا يخشى من أدواته ما دامت متنازعة، ولا يقلقه انهيار الخدمات ما دام الانهيار يشتت الوعي ويُنهك المجتمع.
وفي خلفية هذا المشهد يقفُ كَيان الاحتلال، لا بوصفه طرفًا ظاهرًا في الاشتباك، بل كعقلٍ استراتيجي طالما أتقن تحويل الجغرافيا العربية إلى ساحات استنزاف دائم، حَيثُ ينهك الخصوم أنفسهم، وتبقى هي خارج دائرة الاستهداف.
كَيان الاحتلال، الذي يرى في استقرار اليمن خطرًا محتملًا، وفي وحدته تهديدًا مباشرًا لمشاريعه، لا يحتاج إلى إعلان حضوره.
يكفيه أن يشعلَ الصراع الداخلي، وأن تتحوّل المحافظات المحتلّة إلى خزَّان مقاتلين للقتال نيابةً عنه.
كُـلّ بندقية تُشهَر في وجه الداخل، هي ضمانة إضافية لأمن الاحتلال، وكل اقتتال داخلي يبعد شبح المواجهة عن حدودها وممراتها الحيوية.
أما الإنسان، فهو الحلقة الأضعف دائمًا.
المواطن الذي لا تعنيه خرائطُ النفوذ ولا تفاهمات الخارج، يجد نفسه محاصرًا بالخوف والفقر وانعدام الأفق.
يُسلب حقه في الأمن كما يُسلب حقه في الكرامة، ويُطلب منه أن يختار بين أدوات متصارعة، كلها تشترك في شيء واحد: العجز عن تمثيل وجعه أَو الدفاع عن مستقبله.
إن أخطر ما في هذه الفوضى أنها تُقدَّم أحيانًا كخلاف محلي طبيعي، أَو كمرحلة انتقالية لا بد منها.. والحقيقة أنها ليست انتقالًا نحو الدولة، بل انزلاق مدروس بعيدًا عنها.
وكل يوم يمر دون تسمية العدوّ الحقيقي، ودون تفكيك هذا المشهد على حقيقته، هو يوم يُضاف إلى عمر الاحتلال ويُخصَم من عمر الوطن.
التحرّر لا يبدأ بتغيير الأسماء ولا بإعادة توزيع الأدوار بين أدوات متعبة، بل بكسر المعادلة من أَسَاسها: معادلة إدارة الصراع بدل حسمه، ومعادلة الاحتراب الداخلي بدل المواجهة الشاملة مع الاحتلال.
حين تُستعاد البوصلة، وتتوحّد الرؤية، يسقط سحر الأدوات، ويصبح الخارج مكشوفًا بلا أقنعة.
ذلك هو الرهان الحقيقي: وعيٌ يُفشل المخطّط، وشعبٌ يرفض أن يكون وقودًا لمعركة لا تخصه، وإرادَة تعيد الصراع إلى مكانه الطبيعي؛ حَيثُ لا صوت يعلو فوق صوت التحرّر، ولا معركة تُخاض إلا؛ مِن أجلِ الوطن.
