المزيد

    ذات صلة

    الأكثر مشاهدة

    حقيقة “الصراع”!؟

    بكل ما أوتي من مكرٍ وخُبث وتوحش ودمويةٍ، وبكل...

    نماذج تصنع أجيالًا

    من يتأمل مسيرة الرسالات الإلهية يدرك أن المرأة كانت...

    مخططات ترامب.. وسياسة فرض السلام من خلال القوة وخططه المفخخة

    منذ اللحظة التي اندلعت فيها الحرب على قطاع غزّة،...

    حضرموت في قلب العاصفة: كيف يُعاد رسم اليمن تحت هيمنة الاحتلال الجديد؟

    تشهد المحافظات الجنوبية المحتلّة، وفي مقدمتها حضرموت، وضعًا متشابكًا...

    مخططات ترامب.. وسياسة فرض السلام من خلال القوة وخططه المفخخة

    منذ اللحظة التي اندلعت فيها الحرب على قطاع غزّة، بدا واضحًا أنّ دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي العائد بقوة إلى المشهد السياسي، لا يكتفي بالدعم التقليدي لإسرائيل، بل يمارس دورًا أشبه بـ”مهندس استراتيجيات” هدفها إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم الرؤية الصهيونية على المدى البعيد.

    كان حضوره في كل تفاصيل الدعم الأمريكي لإسرائيل حاضرًا: مالًا وسلاحًا، إعلامًا وتحريضًا، ضغوطًا وابتزازًا سياسيًا. لم يكن يخفي انحيازه، بل يعلنه بفجاجة. فبالنسبة إليه، المشروع الصهيوني ليس مجرد حليف، بل جزء من رؤيته للعالم الجديد الذي يحاول رسمه، رؤية قائمة على فرض “سلام” بقوة الحديد والنار، سلام يشبه الاستسلام أكثر مما يشبه الاتفاق، ويحوّل الشعوب إلى متلقّين لأمر واقع كتبته القوة العسكرية، لا لنتائج تفاوض متكافئ.

    ترامب والحرب على غزة: من الدعم العسكري إلى الأحلام العقارية

    طوال فترة الحرب على غزة، كان ترامب يتصرف وكأنه جزء من غرفة العمليات الصهيونية. لم يكن يكتفي بدعم إسرائيل في المحافل الدولية، بل كان ينظر إلى غزة أيضًا بمنظار المستثمر الطامع، لا السياسي الذي يزعم أنه يبحث عن السلام.
    لقد تحدث مرارًا عن “صِغَر مساحة إسرائيل”، وأبدى إعجابه الشديد بساحل غزة، واصفًا إياه بالكنز التجاري والسياحي. كان يتصور تحويله إلى شريط من الفنادق الفاخرة والمتنزهات والموانئ التجارية، كأنّ غزة مجرد قطعة أرض بلا شعب، بلا تاريخ، بلا حقوق، قابلة للمسح وإعادة البناء وفق هندسة عقارية أميركية إسرائيلية.

    لكن هذه الأحلام بدأت تتلاشى تدريجيًا، أمام صمود المقاومة وتعقيدات الأرض الفلسطينية، لينزل ترامب شيئًا فشيئًا من شجرة الأمنيات العالية، ويعود إلى الحسابات الواقعية. ومع ذلك، لم يتراجع عن محاولاته، بل لجأ إلى وسائل أكثر خبثًا، أبرزها طرح “خطة ملغومة” لوقف إطلاق النار، خطة بدت في ظاهرها تسوية، لكنها في باطنها كانت فخًا سياسيًا وإنسانيًا وأمنيًا للمقاومة.

    الخطة الملغومة: خياران أحلاهما مرّ

    قدّم ترامب صيغة لوقف إطلاق النار جعلت المقاومة أمام خيارين لا يُحتملان:
    • إما القبول باتفاق أشبه بالاستسلام البطيء،
    • أو مواجهة الموت والتهجير ونزيف الحرب المفتوح.

    لقد صُممت الخطة بحيث تمنح العدو الإسرائيلي ما تريده من دون أن تقدم هي أي تنازل حقيقي. ومنذ اللحظة الأولى، لم يلتزم الكيان بوقف أي خرق، بل استمرت في سياستها القائمة على القضم التدريجي، والضغط النفسي، وتجويع السكان، وتضييق الخناق على المقاومة، تحت مرأى العالم وصمت الإدارة الأمريكية.

    لم يتحرك أحد لوقف هذه الانتهاكات. حتى الأصوات التي ادّعت أنها تسعى لحل إنساني لم تفعل سوى توفير غطاء دبلوماسي لإسرائيل.

    وهكذا، تحولت “خطة وقف إطلاق النار” إلى رافعة سياسية لإسرائيل، ووسيلة تتيح لها الخروج من “نفق غزة المظلم”، بعد أن وجدت نفسها في مأزق عسكري وسياسي كان يهدد مستقبلها في المنطقة.

    فوائد إسرائيل من اتفاق ترامب: خطوة أولى نحو مكاسب أكبر

    لم يكن اتفاق ترامب مجرد محاولة لتبريد الجبهة. بل كان خطوة أولى نحو مكاسب أكبر أرادت إسرائيل تحقيقها على مراحل.
    لقد منحها الاتفاق:
    • استعادة زمام المبادرة السياسية،
    • ترميم صورتها أمام حلفائها بعد إظهار عجزها في غزة،
    • إعادة ترتيب أوراقها الأمنية،
    • وفتح باب ضغوط جديدة على دول الجوار.

    وهذه هي النقطة الأخطر:
    ما بدأ في غزة كان مجرد مقدمة. فترامب، بعقليته القائمة على الابتزاز والتفاوض من موقع القوة، قرر أن ينقل أدوات الضغط نفسها إلى لبنان.

    من غزة إلى لبنان: تكرار النموذج بوسائل جديدة

    بعد أن رأى ترامب استحالة فرض حل نهائي على المقاومة في غزة، اتجه إلى لبنان، مدفوعًا بقناعة أن “النموذج نفسه يمكن أن ينجح ولكن بطريقة مختلفة.”
    كان هدفه واضحًا:
    سحب لبنان، بوعي أو دون وعي، إلى فخ التفاوض المباشر مع إسرائيل، ومن ثم دفعه نحو التطبيع، مع إظهار الأمر وكأنه خطوة اضطرارية لمنع حرب جديدة.

    لجنة الميكانيزم: الفخ الذي يختبئ خلف الطاولة العسكرية

    تحت عنوان “لجنة الميكانيزم”، طرحت واشنطن صيغة لتكون لجنة عسكرية تفاوضية غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل.
    لكن ما حدث هو الآتي:
    • بدأت الضغوط لإدخال ممثلين مدنيين إلى اللجنة،
    • ثم جرى الضغط لفرض شخصية لبنانية معينة، لها جذور واضحة في جيش لحد،
    • الأمر الذي يعني عمليًا تحويل اللجنة من قناة تواصل عسكرية تقنية إلى قناة تفاوض سياسي اقتصادي مباشر.

    وهذا أخطر ما في الأمر.
    فالهدف الحقيقي ليس مناقشة ترتيبات حدودية أو أمنية، بل فتح بوابة التطبيع الشامل، ثم الانتقال إلى محاولة نزع سلاح المقاومة عبر حصار اقتصادي وسياسي وأمني مطبق.

    حتى لو اعترفت الدولة اللبنانية بإسرائيل نظريًا، فإن ذلك لن يكون كافيًا في نظر واشنطن وتل أبيب. فالغاية الأعمق هي القضاء على المقاومة كفكرة، لا فقط كمجموعة عسكرية.
    القضاء على بيئتها، على اقتصادها، على شبكات دعمها، على قدرتها على التأثير الشعبي.
    بمعنى آخر:
    إلغاء أي إمكانية لولادة مقاومة مستقبلية.

    من لبنان إلى العراق: مشروع أبراهام والنسخة الناعمة من الضغوط

    لا يتوقف مشروع ترامب عند غزة أو لبنان. إنه يمتد نحو العراق، ولكن بأسلوب مختلف، أقل صخبًا وأكثر نعومة، يُقدَّم تحت عنوان “المصالحة بين الأديان” في مدينة أور، بينما جوهره سياسي أمني.

    مشروع أبراهام: مدخل مفخخ نحو إعادة هندسة المنطقة

    يسعى ترامب ومنظومته إلى إدخال العراق في مشروع أبراهام، ليس بهدف “التسامح الديني” كما يروّج، بل بهدف إنشاء شبكة تطبيع إقليمي تُحاصر كل قوة رافضة لإسرائيل.
    وفي العراق، تتخذ الأدوات شكلًا أكثر تعقيدًا:
    • ضغوط لحل الحشد الشعبي أو دمجه قسرًا بالمؤسسة الأمنية،
    • منع شخصيات مقاومة من تولّي أي منصب سياسي،
    • استخدام وزارة الخزانة الأميركية لفرض عقوبات تحت ذرائع جاهزة، مثل دعم إيران أو تمويل الإرهاب،
    • التغاضي عن التدخلات الإسرائيلية الأمنية والاستخباراتية داخل العراق.

    هذه الاستراتيجية ليست جديدة.
    هي امتداد لنموذج حاول ترامب تطبيقه في إيران عبر الاتفاق النووي، قبل أن ينقلب عليه ويبدأ مرحلة المواجهة المفتوحة.

    دروس يجب أن تُقرأ: ما الذي ينبغي أن تتعلمه الحكومة العراقية؟

    أمام هذه السلسلة من الأحداث، تمتد العبرة إلى بغداد.
    فترامب ليس رجل اتفاقات ثابتة.
    هو رجل صفقات متقلبة، ينقلب عليها ما إن يشعر بأن إسرائيل تحتاج شيئًا جديدًا.
    تجارب غزة ولبنان وإيران تقول إن أي تفاهم مع ترامب قد يتحول في لحظة إلى عبء أو إلى سلاح يُستخدم ضد الطرف الآخر.

    على الحكومة العراقية أن تدرك أن:
    • كل خطوة تطبيع في المنطقة تُستخدم لاحقًا للضغط على المقاومة،
    • كل لجنة أو اتفاق يتم تمريره باسم الأمن أو الاقتصاد يحمل خلفيات سياسية،
    • كل تنازل صغير يصبح لاحقًا مدخلًا لتنازل أكبر،
    • وأن ترامب ينظر إلى إسرائيل باعتبارها فوق كل مصالح المنطقة وشعوبها.

    إن نكث العهود جزء من منهجيته السياسية، وليس مجرد خطأ عابر.
    ولذلك، فإن قراءة سياسته يجب أن تكون قراءة واقعية، لا انبهارًا بخطاب ووعود قد تنقلب في اليوم التالي.

    الخاتمة

    إن ما يجري في غزة ولبنان والعراق ليس أحداثًا متفرقة، بل حلقات في سلسلة واحدة، هندستها إدارة أميركية ترى أن “السلام بالقوة” هو الطريق الوحيد لفرض مشروعها.
    لكن هذا السلام، في جوهره، ليس سلامًا، بل محاولة لإعادة تشكيل المنطقة وفق رؤية أحادية، تتجاهل حقوق الشعوب وتضحياتها وتاريخها.

    ومهما تغيرت الأدوات أو تبدلت الساحات، فإن الهدف النهائي يبقى واحدًا وهو تأمين إسرائيل، وإضعاف أي قوة يمكن أن تشكل توازنًا في مواجهتها.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    كيان الأسدي

    spot_imgspot_img