تتواصل المعاناة في اليوم السابع والخمسين من وقف إطلاق النار في غزة، في وقتٍ بات فيه هذا “الوقف” أقرب إلى هدنة معلقة على خيط رفيع من النار. فقد أكد مصدر في الإسعاف والطوارئ استشهاد سبعة فلسطينيين وإصابة آخرين بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، بعد قصف مدفعي استهدف مناطق شرقي مدن غزة وخان يونس ورفح مع ساعات الفجر الأولى.
وتزامن القصف مع تحذيرات أطلقتها بلديات قطاع غزة من توقف شبه كامل للخدمات العامة نتيجة منع الاحتلال إدخال الوقود والمعدات الحيوية، مما يهدد بوقوع كارثة صحية وبيئية وشيكة في ظل استمرار انهيار البنية التحتية وغياب أي تدخل دولي فعّال.
سياسيًا، قال رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إن بلاده “تتفاوض لرسم المسار المستقبلي للمرحلة التالية”، مؤكداً في كلمته خلال افتتاح منتدى الدوحة الدولي في نسخته الـ23 أن “نحن في مرحلة مفصلية ولم يُطبّق الاتفاق بشأن غزة بالكامل”، مشدداً على أن جهود وقف إطلاق النار ليست غاية في ذاتها، بل خطوة نحو مرحلة الاستقرار وتأسيس الدولة الفلسطينية. وقد جاءت تصريحاته وسط مشاركة واسعة من رؤساء دول ودبلوماسيين وخبراء عالميين، في محاولة لإعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها السياسي بعد أن أثخنتها الحروب المتكررة.
وفي الضفة الغربية، واصلت قوات الاحتلال اقتحاماتها اليومية لمدن وبلدات فلسطينية، حيث استُشهد الشاب بهاء راشد برصاص الاحتلال خلال اقتحام بلدة أودلا جنوب نابلس، فيما داهمت وحدات خاصة مدينتي جنين وعرابة، وحوّلت منازل إلى ثكنات عسكرية واحتجزت عدداً من الشبان لساعات طويلة. كما اقتحمت آليات الاحتلال بلدة برقين وأطلقت النار عشوائياً في الشوارع دون وقوع إصابات، في تصعيدٍ بات يعكس نية إسرائيلية لإبقاء الضفة تحت ضغطٍ دائمٍ بالتوازي مع العدوان على غزة.
على الصعيد الإنساني، كشفت قصة هنادي سكيك، الناجية الوحيدة من مجزرة حي الرمال، عن عمق المأساة والازدواجية في التعامل مع الجثامين الفلسطينية. تقول هنادي، التي ما زالت تزور الركام الذي دفن عائلتها منذ عامين: “لا نستطيع أن نعيد للأموات الحياة، لكن ربما نعيد لهم الكرامة”.
وتعبّر بغضب عن استغرابها من قيام المؤسسات الدولية بإرسال معدّات لانتشال جثامين المحتجزين الإسرائيليين، بينما يُترك آلاف الفلسطينيين تحت الأنقاض بلا أي معدات أو دعم. وتصف ذلك بأنه “ازدواجية مؤلمة في معايير الإنسانية… فهل كثير على الفلسطيني أن يُدفن في قبرٍ يحمل اسمه؟”.
وبينما تسابق فرق الإنقاذ الزمن لإخراج الضحايا من تحت الركام، يؤكد المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل أن “العمل يتم بحفّار واحد فقط، في حين أن الحديث يدور عن أكثر من 9,000 شخص ما زالوا تحت الأنقاض”، مشيراً إلى أن “السرعة الحالية بطيئة جداً ولا تتناسب مع حجم الكارثة”. وأضاف أن الدفاع المدني طلب 20 حفّاراً على الأقل إلى جانب الجرافات والشاحنات، لكن الاحتلال يمنع دخولها، بينما الصليب الأحمر لم يوفّر سوى معدّة واحدة تعمل ضمن طاقتها المحدودة.
وتصف اللجنة الدولية للصليب الأحمر هذه العملية بأنها “واحدة من أعقد المهام الإنسانية في غزة”، مؤكدة أن القانون الدولي الإنساني يفرض احترام الجثامين وصون كرامتها، لكنها حذّرت من أن حجم الدمار يجعل العملية شديدة التعقيد وطويلة الأمد. وحتى اليوم، تبقى آلاف العائلات في غزة عالقة بين الركام والألم، تنتظر أن يُعاد لأجساد أحبّتها حقّها الأخير في قبرٍ وشاهد.
في المقابل، يواصل العدوان الإسرائيلي في أرقامٍ مروّعة حصد الأرواح: فقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أن حصيلة الشهداء ارتفعت إلى 70,354 شهيداً و171,030 مصاباً منذ السابع من أكتوبر 2023، بينهم 367 شهيداً منذ بدء وقف إطلاق النار. وأشارت الوزارة إلى أن المئات لا يزالون تحت الأنقاض، وأن طواقم الإنقاذ “تعجز عن الوصول إليهم بسبب استمرار القصف ونقص الوقود والمعدات”.
أما في الضفة الغربية، فقد شهدت الساعات الأخيرة تصعيداً استيطانياً واسعاً؛ إذ نفذ مستوطنون 621 اعتداءً خلال نوفمبر الماضي وفق هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، شملت الاعتداء على المزارعين في الخليل وسعير ومسافر يطا وبيت لحم، والاستيلاء على أراضٍ في كيسان ومخماس، ومنع الرعاة من الوصول إلى المراعي في الخان الأحمر. كما أصيب ثلاثة فلسطينيين قرب أريحا جراء اعتداء الجنود عليهم بالضرب، في حين اختنق رضيع عمره 20 يوماً بالغاز المسيل للدموع في مادما جنوب نابلس أثناء اقتحامٍ عنيف لقوات الاحتلال.
وسط هذا المشهد الدموي، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بتجديد ولاية وكالة الأونروا لثلاث سنوات إضافية، في محاولة رمزية لدعم ملايين اللاجئين الفلسطينيين في ظل انهيار منظومة المساعدات. غير أن هذا القرار، رغم أهميته، يبدو عاجزاً عن وقف الانهيار الإنساني المتسارع أو وضع حدٍّ للمأساة المستمرة منذ أكثر من عامين.
ما بين هدنةٍ تُخرق كل يوم، وأرقامٍ ترتفع بلا توقف، ومجتمعٍ دوليٍّ يتعامل بانتقائية مع الدم الفلسطيني، تبدو غزة اليوم أقرب إلى “هدوء المقابر” منه إلى سلامٍ حقيقي. فالمدينة التي خنقها الحصار والركام لا تزال تبحث عن قبورٍ لشهدائها، وعن ضميرٍ عالميٍّ يعيد للإنسان الفلسطيني حقه في الحياة.. أو على الأقل في الكرامة بعد الموت.
