في تطور يعكس تحولًا جوهريًا في المشهد الإقليمي، أعادت السعودية تحريك قنوات الوساطة الإيرانية بشأن الملف اليمني، في خطوة تُعدّ بمثابة إقرار ضمني بفشل الخيار العسكري والرهانات السابقة على الحلفاء المحليين والإقليميين. وجاءت هذه الخطوة – التي جرى ترتيبها في العاصمة الإيرانية طهران بمشاركة صينية مباشرة – لتؤكد دخول العلاقات السعودية الإيرانية مرحلة جديدة من إعادة التموضع والتفاهم المشروط.
وبحسب ما نقلته وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، فقد طلبت الرياض وساطة جديدة تفضي إلى اتفاق دائم في اليمن، يتضمن دعم حل شامل يقوم على مبادئ جديدة تختلف عن المرجعيات الثلاث التي ظلت المملكة تتمسك بها طوال السنوات الماضية. ويمثل هذا التحول تنازلاً صريحًا عن مرتكزات التدخل السعودي في اليمن، وإشارة واضحة إلى القبول بحلول سياسية تنسجم مع مقاربات صنعاء وشروطها السيادية.
ويشير الاتفاق المبدئي الذي تمخض عن اللقاء إلى تفاهم سعودي – إيراني – صيني للدفع نحو تهدئة دائمة في اليمن تضمن استقرار حدود المملكة مقابل ضمانات أمنية واقتصادية متبادلة. وتأتي هذه التطورات في لحظة سياسية دقيقة، حيث تواجه الرياض أزمة غير مسبوقة مع حليفتها الإمارات بعد انهيار التحالف المشترك في المحافظات الشرقية، ما جعلها مضطرة لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية بسرعة، خشية خسارة النفوذ في عمق الجنوب والشرق اليمني.
ويُلاحظ أن الخطوة السعودية جاءت متزامنة مع تنازلها عن ثلاثة ملفات رئيسية شكلت جوهر الصراع في السنوات الماضية، أبرزها ملف “الإصلاح” فرع الإخوان المسلمين، الذي ظل أداة الضغط الداخلي وأحد عوامل تعقيد المشهد السياسي، إلى جانب إسقاطها ملف “المرجعيات الثلاث” التي كانت تمثل الإطار القانوني لتدخل التحالف في اليمن. كما شمل التنازل إعلان انسحاب تدريجي من كافة الأراضي اليمنية، وهو ما يُعدّ استجابة مباشرة لمطالب صنعاء التي جعلت من هذا الانسحاب شرطًا أساسيًا لأي تسوية.
ويرى مراقبون أن هذه التحركات تمثل مؤشرًا على إغلاق السعودية فعليًا لملف الحرب على اليمن، بعد عشر سنوات من الفشل الاستراتيجي والتورط العسكري المكلف، في مقابل التوجه نحو تسويات سياسية متعددة الأطراف تحفظ ماء الوجه وتعيد صياغة توازناتها الإقليمية. وفي المقابل، يبدو أن إيران تمسك الآن بخيوط معادلة جديدة، تجمع بين دبلوماسية التهدئة ومساعي التوازن الإقليمي، مستفيدة من ضعف الحلف السعودي الإماراتي وتفككه الميداني في الساحة اليمنية.
في المحصلة، يظهر أن الرياض دخلت طور التسليم بالواقع الجديد الذي فرضته صنعاء على الأرض والسياسة معًا، لتتحول من طرف في الحرب إلى طرف يسعى إلى التهدئة بأي ثمن. إنها لحظة انتقال من حرب الاستنزاف إلى دبلوماسية البقاء، ومن الرهان على السلاح إلى البحث عن النجاة عبر طهران وبكين، في مشهد يعيد رسم خارطة القوة في الخليج والجزيرة العربية من جديد.
