ي الذكرى الثامنة لانبثاق فجر النصر على العصابات الإجرامية التي اجتاحت غربَ العراق، وعبثت في الأرض فسادًا، يقف العراقيون اليوم أمام محطة تاريخية تستحق التأمل بعمق، والعودة إليها بوعي لا ليستعيدوا الماضي فحسب، بل ليقرؤوا المستقبل من خلاله.
فهذا النصر لم يكن حدثًا عابرًا، ولا نتيجةَ لحظة حماس، ولا ثمرة صدفة؛ بل كان حصيلةَ منظومة راسخة من المرتكزات والمواقف، واجتماع الإرادَة الشعبيّة والفتوى والتضحيات والسواعد المخلصة التي وقفت تحتَ راية العراق الواحد.
لقد كانت الاستجابةُ المبكِّرةُ من حركات المقاومة عاملًا حاسمًا في بداية المشهد؛ فهي القوى التي راكمت خبرة طويلة في مواجهة الاحتلال والتهديدات الأمنية المعقدة، رغم قلة العدد والعُدّة في أيامها الأولى.
ومع ذلك، فإن تلك الشرارة الأولى كانت هي الجدار الذي تلقى الصدمة الأولى، ومنع الانهيار الكامل، ومهّد الطريق لبقية حلقات المعركة.
جاء بعد ذلك الحدث المفصلي الذي غيّر مجرى التاريخ؛ الفتوى المباركة للمرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، المتمثلة بالسيد علي السيستاني، لتفتح أبواب التاريخ أمام مدٍّ بشري هائل.
خرج الرجالُ من بيوتهم كما لو أنهم يلبّون نداءً سماويًّا، وازدحمت مراكزَ التطوع بشيبٍ يحملون ذاكرةَ وطن، وشبابٍ يحملون مستقبلًا يريدون حمايته.
ولم يكن هذا المدُّ البشري وحدَه كافيًا لخلق النصر، بل ترافق مع الدعم الواسع من الجمهورية الإسلامية في إيران، ولا سيما وجود الخبرات الميدانية والقيادات العسكرية من الحرس الثوري وحزب الله.
هؤلاء، كما رآهم المقاتلون، لم يكونوا ضيوفًا، بل شركاء في الخندق ورجالًا على الأرض.
أسهموا في بناء الهيكلة وتنظيم الصفوف وصياغة الخطط، وأوجدوا توازنًا عسكريًّا في لحظة كان فيها الخطر وجوديًّا ويمتد على خريطة كاملة.
أما الدمُ العراقي الذي سال، فكان هو البرهانَ الأصدقَ على أن النصرَ لم يتحقّقْ بالشعارات أَو الخطابات، وإنما بالتضحيات.
الشبابُ الذين صعدوا إلى الجبهات لم يحملوا سوى يقينهم وإيمانهم بالوطن، والقادة الذين وُجدوا معهم لم يقفوا بعيدًا خلفَ خطوط القيادة، بل كانوا كَتِفًا إلى كَتِف، يتقدَّمون الصفوفَ ويحمّلون أنفسَهم قبل الآخرين مسؤولية القرار والميدان.
وهكذا تحوّل وجودُ الحشد الشعبي في ساحات القتال إلى قوة معنوية قبل أن يكون قوة قتالية؛ لأن الحشد أصبح رمزًا للاطمئنان لدى وحدات الجيش، ورافعة روحية قبل أن يكون رافعة نارية.
وفي قلب تلك اللحظات، يبرز الدور المحوري للشهيد القائد أبي مهدي المهندس؛ رجلٌ عرف الحرب كما يعرفُ الفلاحُ أرضَه.
تحَرّك من اللحظة الأولى لإعادة لمِّ شمل قيادات الرعيل الأول، الذين امتلكوا خبرةً طويلةً في مواجهة النظام السابق ومقاومة الاحتلال.
أصدر المهندس بيانًا عاجلًا، دعا فيه الكوادرَ إلى الالتحاق الفوري وتنظيم الصفوف؛ فجاءت الاستجابة بحجم العراق.
امتلأت الساحاتُ برجالٍ خَبِروا السلاح ومن لم يره إلا للمرة الأولى، واجتمع الشيبُ والشبابُ في مشهدٍ نادرٍ لا تصنعه إلا اللحظات المصيرية.
عمل الرعيل الأول على تدريب المتطوعين، وتنظيمهم وتوزيعهم على الألوية والقِطعات، وبات البناء العسكري يسير بالتوازي مع التهيئة الروحية والمعنوية، ليولد من رحمِ الفوضى جيش جديد من المتطوعين، يقف سدًا منيعًا أمام تمدد الإرهاب، ويقلب الموازين شيئًا فشيئًا.
وهكذا تحقّقت الملحمة: تضحيات، وفتوى، وإرادَة شعب، وخبرة قادة.
انتهت المعركة، نعم؛ لكن الحرب ضد الإرهاب بأشكاله وأقنعته الجديدة لم تنتهِ بعد.
فالنصر ليس ذكرى تُروى، بل عهدٌ ينبغي أن يُصان، واستعداد مُستمرّ للحفاظ على ما تحقّق بدماءٍ لا يجوز أن تُنسى.
ورغم أن نَارَ المعركة قد خمدت، فإن الحربَ لم تضَعْ أوزارَها بعد.
فما زالت الجهاتُ الدولية، التي استفادت يومًا من تمدُّدِ تنظيم داعش الإجرامي، من قوى كبرى وأجهزة استخباراتية غربية وبعض القوى الإقليمية، تنسجُ خيوطَ المؤامرات بصور جديدة، وتعيد ترتيبَ أدواتها وأساليبها؛ بهَدفِ زعزعةِ أمن العراق واستقراره، بعد أن فشلت أدوات الإرهاب المباشر في تحقيق أهدافها.
ولا تزال غيمةُ النفوذ الأمريكي، بشكل خاص، تخيّم على المشهد العراقي سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، ضاغطةً على مسارات الإصلاح وموجات التغيير الشعبي، محاولةً إعادة صياغة القرار الوطني بما يخدم مصالحهاالاستراتيجية.
وبين التحرّر من الإرهاب العسكري والتحرّر من الهيمنة السياسية مسار طويل، يتطلَّبُ وعيًا بقدرِ ما يتطلَّبُ قوة، وإرادَة بقدر ما يتطلب سلاحًا.
لقد تحرّر العراق من داعش، وانتصر عليه في الميدان، لكنه لم يقطع بعدُ شوطَ معركة التحرّر الكامل من الوصاية الخارجية.
فالنصرُ العسكري خطوة أولى، أما النصرُ السيادي فهو معركةٌ طويلة، معركة إرادَة شعب يريد أن يرى عراقًا حُرًّا، قويًّا، مستقلًّا، لا تُملى عليه السياسات ولا تُصادر قراراته.
