المناطقية مرض أخلاقي يتعارض مع الدين الإسلامي بكل قيمه السامية، وهو وليد التعبئة الخاطئة للقوى السياسية في جنوب اليمن والأنظمة الأجنبية المتحالفة معها، وقد تسببت المناطقية بقتل أعداد كبيرة من الشماليين المقيمين في الجنوب ونهب ممتلكاتهم وتشريد أسرهم، وقد وجد الرياض وأبوظبي في المناطقية سلاحاً فعالاً في إطار مشروعهما لتقسيم اليمن وتفتيت نسيجه الاجتماعي.
وللتعبئة المناطقية جذور قديمة تعود لحقبة الاحتلال البريطاني الذي قسم جنوب اليمن إلى نحو 30 من الكيانات المنفصلة والمتصارعة فيما بينها، إلا أنها رغم ذلك كانت مجمعة على خدمة الإنجليز والخنوع لتوجيهاتهم، وقد أعاد خونة اليوم استنساخ ذلك المشروع من جديد، فبدأً ضد الشماليين قبل أن يتحول ضد الجنوبيين أنفسهم، فأبناء الضالع ويافع لا يرون غيرهم من الجنوبيين أنداداً لهم، وهذا توجه مدفوع وممول من الخارج، ويستخدمه الإماراتيون لقمع الجنوبيين من أبناء المحافظات الأخرى.
وفي قاموس المناطقية الراهنة، فإن الانتساب لليمن جريمة يعاقب صاحبها بالقتل ونهب الممتلكات ولو كان من أبناء الجنوب، كما أن لأبناء المثلث الحق في تقدير الولاء ونسبته في غيرهم وليس لغيرهم الحق نفسه، والأولوية لهم لأنهم الأكثر خدمةً لآل نهيان، رموز الوثنية في الجنوب، وقد رأينا كيف استغلت الإمارات السلاح المناطقي لقمع دعاة الوحدة في المحافظات الشرقية فهم الأداة الطيعة لخدمة مشروعها الصهيوني.
خطورة هذه المناطقية أنها لا تميّز بين خصم وحليف، ولا بين من يعارض المشروع القائم ومن يقدّم له الولاء الكامل. فـ”الشمالي” يظل شماليًا في نظر هذا المنطق مهما غيّر خطابه أو خدم المشروع، ومهما قدّم من تنازلات سياسية أو أمنية. والتحالف هنا ليس شراكة، بل استخدام مرحلي ينتهي بانتهاء الحاجة.
وتبرز هذه الحقيقة بوضوح عند النظر إلى نماذج من خونة الشمال المتحالفين مع القوى المناطقية في الجنوب تحت راية الإمارات، وفي مقدمتهم شخصيات مثل طارق عفاش وغيره ً. غير أن هذا الرهان يتجاهل طبيعة المشروع نفسه؛ فالمناطقية لا تعترف بالتحالف، بل بالهوية فقط، ولا ترى في الحليف إلا “شماليًا مؤجَّل العداء”، ومن المستحيل قبول هؤلاء كجزء من النسيج الجنوبي، وإنما يتم توظيفهم كأدوات في مرحلة معينة: لمعادلة قوى، أو لتجميل مشهد، أو لتوجيه رسالة إقليمية. وما إن تتغير الموازين، حتى يصبح وجود هؤلاء عبئًا غير مرغوب فيه، ويُعاد تصنيفهم ضمن خانة “الخطر الكامن” أو “التهديد المحتمل”.
والسبب أن المناطقية، حين تتحول إلى معيار وحيد للانتماء، تُنتج حالة عداء مزمنة داخل المجتمع نفسه، وتُفرغ أي مشروع سياسي من قدرته على الاستمرار. فلا دولة يمكن أن تُبنى على الإقصاء، ولا كيان يمكن أن يستقر وهو قائم على تقسيم الناس إلى “أصليين” و”دخلاء”، مهما كانت مبررات ذلك التقسيم أو شعاراته التاريخية.
وإذا كان بعض الشماليين المتحالفين مع هذه القوى يظنون أن عداءهم لأبناء مناطقهم أو قطيعتهم مع تاريخهم سيمنحهم حصانة، فإن الوقائع تثبت أن المناطقية لا تحمي أحدًا. فهي تبدأ بإقصاء الخصوم، ثم تضيق دائرتها لتشمل الحلفاء، وتنتهي بابتلاع الجميع داخل منطق صراعي لا سقف له، ومهما تأخر الوقت فإن خونة الشمال سيدفعون ثمن الخيانة غالياً، وسيتحولون يوماً إلى ضحية تستحق الشفقة من أبناء الوطن الشرفاء، كحال الخونة من حزب الإصلاح ممن وقفوا سداً منيعاً ضد الجيش واللجان الشعبية في المحافظات المحتلة، فكانت نهايتهم على يد حلفائهم.
ولنا في حزب الإصلاح عبرة، فنهج الإفساد الذي تبناه ارتد عليه بالموت والتشرد، فالمناطقية في جنوب اليمن تشكل خطرًا على الوحدة الوطنية من جهة، وخطر على كل من ينخرط فيها أو يراهن عليها، شماليًا كان أم جنوبيًا. فهي مشروع هدم وسكينٌ لا يتوقف عند رقبة الخصم، بل يواصل حركته حتى يطال كل من ظنّ يومًا أنه بمنأى عنه.
