تتجاوز الخطة الأمريكية المقترحة لإدارة قطاع غزة بعد الحرب الراهنة فكرةَ التدخل الإنساني العابر أَو الإجراء الأمني المؤقت، لتصيغ إطارًا استراتيجيًّا متكاملًا يهدف إلى ترسيخ واقع احتلالي جديد وخطير، يرتقي إلى مستوى الضم الفعلي للأراضي بالقوة والعنف الممنهج؛ ما يمثّل انتهاكًا صريحًا لقواعد القانون الدولي ومبادئه الأَسَاسية، التي تحظر الاستيلاء على الأراضي بالحرب وتكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها.
تكشفُ الخُطَّةُ الأمريكية عن نيةٍ عميقة لإعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا في القطاع المحاصَر، عبر تقسيمه إلى كانتونات معزولة ومناطق مغلقة؛ مما يفرض نظامًا مطورًا من الحبس الجماعي غير القانوني على السكان المدنيين.
ويُحوّل هذا المخطّطُ غزةَ من كتلة جغرافية وسكانية متماسكة إلى جيوب متناثرة خاضعة لسيطرة وسلطة دائمة، ويعيد إنتاجَ منطق الاستعمار الاستيطاني تحت شعارات حديثة مثل “الإدارة الأمنية الانتقالية” و”إعادة الإعمار المشروط”.
فجوهرُ هذه الخطة، بغضِّ النظر عن التعبئة اللغوية والدعاية السياسية المصاحبة لها، يقومُ على تكريس الاحتلال الإسرائيلي وتقديمه كأمر واقع لا مناصَ منه.
من الناحية القانونية الدولية، تتعارض هذه الخطة تعارضًا تامًا مع ثوابت القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني.
فمبدأ حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وهو قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي العرفي، يحظر أي اكتساب للإقليم ناتج عن التهديد باستخدام القوة أَو استخدامها فعليًّا.
وأية ترتيبات إدارية أَو أمنية تفرضها دولة الاحتلال، أَو تحالفت معها قوى دولية، على أراضٍ محتلّة، وتستند إلى بقاء القوة الاحتلالية بشكل مباشر أَو غير مباشر، تُعد باطلة ولا تنتج أية آثار قانونية.
كما تحظر اتّفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949 وبروتوكولاها الإضافيان صراحة النقل القسري الجماعي أَو الفردي للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلّة أَو ترحيلهم داخليًّا، وكذلك أي تغيير ديموغرافي تقوم به قوة الاحتلال.
والخطة الأمريكية، من خلال الحديث عن “إعادة توطين” سكانية داخلية وخلق “مناطق آمنة” معزولة، تقع في صميم هذه الممارسات المحظورة.
علاوة على ذلك، فإن الاستمرارَ في السيطرة على المعابر وتقسيم القطاع وفرض قيود على حركة الأشخاص والبضائع يمثل شكلًا من أشكال العقاب الجماعي الذي تحظره المادة 33 من اتّفاقية جنيف الرابعة، وهو استمرار لسياسة الحصار غير القانوني الذي عانت منه غزة لسنوات.
وعلى المستوى الاستراتيجي، تهدف الخطة إلى تفكيك وحدة الصف الفلسطيني وخلق واقع مادي وسياسي جديد يقطع الطريق على مشروع التحرّر الوطني.
فتحويل غزة إلى جيوب معزولة تحت سيطرة أمنية مشدّدة ليس سوى محاولة لتحييد دورها كقلعة للمقاومة ومعقل للصمود، وفصل مصيرها نهائيًّا عن مصير الضفة الغربية والقدس.
وهذا الفصل الجغرافي والديموغرافي المقصود هو أدَاة استعمارية كلاسيكية تهدف إلى إدارة الصراع لصالح الاحتلال بدلًا من حله، وتحويل قضية شعب بأكمله إلى مُجَـرّد مشكلات إنسانية متفرقة يمكن “إدارتها” عبر المساعدات والرقابة الدولية.
ينبع منطق الخطة من رؤية تستخدم المعاناة الإنسانية للضغط على الشعب الفلسطيني لقبول شروط مهينة، حَيثُ يتم ربط إعادة إعمار الدمار وتقديم المساعدات الغذائية الطارئة بتنازلات سياسية وأمنية، مثل التخلي عن حق المقاومة المشروع أَو نزع سلاح حركات المقاومة.
وفي هذا السياق، تبرز شرعية المقاومة الفلسطينية بجميع أشكالها، وخَاصَّة الكفاح المسلح ضد قوة الاحتلال، كحق ثابت غير قابل للتصرف.
ويؤكّـد القانون الدولي والقرارات الأممية المتعددة، مثل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 37/43، على شرعية نضال الشعوب؛ مِن أجلِ التحرّر الوطني من السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي بجميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح.
والمقاومة في غزة ليست عملًا عشوائيًّا، بل هي رد فعل ضروري ومشروع على عنف الاحتلال الممنهج والمُستمرّ لسنوات، الذي يشمل الحصار الخانق والاعتداءات العسكرية المتكرّرة والاستيطان والتهجير القسري.
إن رفض الخطة الأمريكية والمشاريع الدولية المشبوهة التي تهدف إلى تحويل طبيعة الصراع من قضية تحرّر وطني إلى أزمة إنسانية، هو واجب وطني وقانوني.
كما أن استمرار المقاومة وتطوير أدواتها هو الضمانة الوحيدة لعدم تمرير مثل هذه الخطط التصفوية، وهو ما يفسّر الهلع الإسرائيلي والأمريكي من وحدة الساحات الفلسطينية ومن قدرة المقاومة على ضرب عمق الاحتلال.
ولذلك، فإن الخطة الأمريكية المقترحة لغزة ليست حلًّا، بل هي استمرار للجريمة ذاتها بوسائل أُخرى.
إنها محاولةٌ لترميم صورة الاحتلال وتقديمه كمشرف “مدني” ودولي، بينما يتم تكريس آليات السيطرة والضم على الأرض.
ومواجهة هذا المخطّط تتطلب تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتصعيد أشكال المقاومة كافة، وكشف الطبيعة غير القانونية للخطة في كُـلّ المحافل الدولية.
ويُثبت تاريخ الشعوب التي ناضلت؛ مِن أجلِ حريتها أن إرادَة الصمود والقتال أقوى من أية خطط تقسيم أَو حبس جماعي.
ومصير هذه الخطة، كسابقاتها، سيكون الإخفاق الذريع أمام إصرار شعب غزة والمقاومة الباسلة التي تحميه.
فمستقبل فلسطين يقرّره شعبها ومقاومتها، وليس المخطّطات الاستعمارية التي تحاول تحويل الأرض المحتلّة إلى سجن كبير مفتوح.
