ذات صلة

الأكثر مشاهدة

القواعد الأمريكية من “حماية زائفة” إلى “منظومة احتلال”

منذ أن مدت الولايات المتحدة أذرعها العسكرية خارج حدودها،...

قاعدة النصر الإلهي ووعي الأُمَّــة

من أهم الثوابت التي يستند إليها المؤمنون في مسارهم...

“ذا ناشيونال”: واشنطن تبتزّ بيروت.. نزع سلاح “حزب الله” شرط لاستمرار دعم لبنان

كشفت صحيفة "ذا ناشيونال" (The National)، الأربعاء، أن الولايات...

القواعد الأمريكية من “حماية زائفة” إلى “منظومة احتلال”

منذ أن مدت الولايات المتحدة أذرعها العسكرية خارج حدودها، تحولت الجغرافيا العالمية إلى رقعة نفوذ مرسومة على مقاس القواعد الأمريكية، التي نُصبت تحت شعارات الحماية بينما كانت في جوهرها مشاريع استعمار مموه، تُعيد رسم خرائط السيادة وتختزل قرار الدول في أروقة القيادة المركزية الأمريكية.

فكل قاعدة تُنشأ على أرض ليست لأمريكا هي بوابة لاختراق القرار الوطني، وكل علم أمريكي يرتفع فوق أرضٍ عربية هو علامة على انحسار السيادة وتمدّد الوصاية.

القواعد التي تذرّعت بها واشنطن لمكافحة الإرهاب أو حفظ الأمن ليست سوى مخالب مغروسة في الجغرافيا السياسية والاقتصادية للمنطقة، ومع كل طائرة أمريكية تُحلّق في سماءٍ ليست لها، تتقلص مساحة القرار المحلي حتى يتحول البلد المستضيف إلى تابعٍ إداريٍّ ضمن خريطة النفوذ الأمريكي.

وتُفتح مطارات الدول أمام الطيران الأمريكي أكثر من طيرانها الوطني، وتُدار ممراتها البحرية وأجواؤها بأجهزة لا يعرف رموزها إلا الضباط القادمين من وراء الأطلسي.

وفي العمق الاقتصادي، تحولت القواعد إلى صنابير مفتوحة لنهب الثروات، إذ تُنشأ دائمًا قرب حقول النفط والموانئ الحيوية لتأمين انسياب الذهب الأسود نحو المصانع الأمريكية، لا نحو خزائن الشعوب. وبينما تُسوّق واشنطن وجودها العسكري كـ“درع حماية”، تتضح الحقيقة: إنها منصات لصناعة الاضطراب وتفكيك الدول وإدامة الحروب، لا إخمادها.

مهام السيطرة: من النفط إلى القرار السياسي

الولايات المتحدة تتعامل مع المنطقة باعتبارها “بحيرة أمريكية مغلقة”، لا يُسمح لأي قوة بالاقتراب منها. قواعدها الممتدة من الخليج إلى البحر الأحمر ليست للدفاع، بل لإدامة الهيمنة وضمان بقاء المنطقة تحت سلطانها المباشر، تمامًا كما بشّرت “كونداليزا رايس” في خطاب “الفوضى الخلّاقة” عام 2006، حين أعلنت ولادة “شرقٍ أوسط جديد” يُعاد تشكيله بالنار وتحت الوصاية الأمريكية.

المهمة الأولى لتلك القواعد هي فرض السيطرة الكاملة على المعابر والممرات الاستراتيجية: قناة السويس، باب المندب، مضيق هرمز، والبحر الأحمر — شرايين العالم التجارية.

فحرية الملاحة، من وجهة النظر الأمريكية، حق حصري للغرب، بينما تُراقب حركة الشرق وتُقيّد، ولهذا كانت الانتكاسة الكبرى عندما نجح الجيش اليمني في بسط سيطرته على البحر الأحمر، وطرد القطع الأمريكية مئات الأميال، في معركة إسناد غزة التي كشفت تراجع الهيبة الأمريكية.

المهمة الثانية للقواعد هي تأمين التفوق الإسرائيلي المطلق، فالوجود العسكري الأمريكي في الخليج والبحر الأحمر هو غطاء لحماية الكيان الصهيوني.

لكن التطورات الأخيرة أظهرت العجز الأمريكي: عندما عجزت واشنطن عن حماية الملاحة الإسرائيلية، واضطرت إلى القبول باتفاق ميداني مع الجيش اليمني يضمن حماية سفنها فقط، تاركة سفن العدو مكشوفة أمام النيران اليمنية.

المهمة الثالثة هي تخزين الأسلحة وتوفير الجسور اللوجستية لأي حرب أو عدوان، كما حدث في عدوان غزة الأخير، حيث اندفعت الإمدادات من القواعد الأمريكية في قطر والإمارات لدعم الكيان الصهيوني.

أما المهمة الرابعة فهي إعادة هندسة الجيوش العربية لتخدم العقيدة الأمريكية، من خلال تدريبات ومناورات مشتركة تُفرض فيها مشاركة “إسرائيل” تحت عنوان “التعاون الإقليمي”. وهكذا تتحول الجيوش الوطنية إلى وحدات رديفة ضمن المنظومة العسكرية الأمريكية، مفرغة من العقيدة وموجهة ضد شعوبها لا ضد عدو الأمة.

خريطة الاحتلال الأمريكي

حتى منتصف عام 2025، تنتشر في المنطقة أكثر من 50 ألف جندي أمريكي في قواعد ضخمة تمثل عموداً فقرياً لاحتلال عسكري ناعم:

  • قطر – قاعدة العديد الجوية: أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، تضم أكثر من 10 آلاف جندي ومقر القيادة المركزية (CENTCOM)، انطلقت منها الحروب ضد العراق وسوريا وأفغانستان.

  • الإمارات – قاعدة الظفرة: مركز عمليات استخباراتية وعدوانية، تستضيف مقاتلات “إف-22 رابتور” وطائرات الاستطلاع والمراقبة المتقدمة.

  • البحرين – قاعدة الأسطول الخامس: الذراع البحرية لواشنطن في الخليج، تضم أكثر من 9 آلاف عسكري وتتحكم بحركة السفن في الخليج العربي والبحر العربي.

  • السعودية – قاعدة الأمير سلطان الجوية وغيرها: مواقع تجسس وطيران استطلاع، تستخدمها أمريكا كمنصات متقدمة في عملياتها بالمنطقة.

  • الكويت – معسكر عريفجان: مركز قيادة وإمداد رئيسي للعمليات البرية الأمريكية.

  • العراق – قاعدة أربيل: غرفة عمليات ضد سوريا وإيران، تحت غطاء “دعم التحالف”.

  • الأردن – قواعد الرويشد ووادي المربع: مراكز للمراقبة الجوية ومهام استخباراتية بإشراف وكالة الأمن القومي الأمريكية.

من حماية المصالح إلى صناعة الاضطراب

هذه القواعد لم تعد رموزًا للتعاون العسكري بل معاقل لإدارة الفوضى وصناعة الأزمات. فمنها انطلقت العدوانات على العراق وسوريا واليمن وليبيا، ومنها تُدار الحرب على غزة، وتُخطط الانقلابات وتُشعل الفتن.

وحيثما حطّت الجيوش الأمريكية، تحولت الدولة إلى ساحة حرب بالوكالة، وتراجع القرار الوطني إلى حدود اللاشيء. إنها جغرافيا مستباحة تُدار بالريموت من واشنطن، تُستنزف ثرواتها، وتُغتال سيادتها، بينما تُرفع شعارات “الشراكة الأمنية” لتغطية مشروع احتلال طويل الأمد.

الخلاصة:
إن القواعد الأمريكية ليست حامياتٍ للسلام، بل مراكز هندسة للفوضى وصناعةٍ منهجية للاضطراب، تُعيد تشكيل الجغرافيا بما يخدم الكيان الصهيوني ويُبقي الأمة في دائرة التبعية. وما بين “العديد” و“الظفرة” و“الأسطول الخامس”، تمتد خيوط شبكة استعمار جديدة تُمسك بخناق المنطقة، وتُعيد رسم خرائطها بمدافع “الحرية” الموجهة نحو صدور شعوبها.

spot_imgspot_img