ذات صلة

الأكثر مشاهدة

وزارة الخارجية : تصريحات غوتيريش تدخل سافر في سيادة البلاد

أصدرت وزارة الخارجية بيانًا شديد اللهجة دانت فيه تصريحات...

عدن وجحيم التخلف المناطقي

تُقاس المدنية والثقافة في أي بلد بمستوى التنوع فيها...

انتصار مثير لمانشستر سيتي في معقل مدريد

قلب مانشستر سيتي الإنجليزي تأخره بهدف إلى فوز بنتيجة...

أرسنال يسحق كلوب بروج بثلاثية ويواصل الصدارة

حقق فريق أرسنال الإنجليزي فوزا كبيرا على مضيفه كلوب...

عدن وجحيم التخلف المناطقي

تُقاس المدنية والثقافة في أي بلد بمستوى التنوع فيها وحجم التعايش بين أبنائها وطريقة تعاملهم مع الثقافات الأخرى، وفي عدن المحتلة لا قبول للآخر، ولا حتى مساحة للتعايش بين أبنائها، والسبب حجم التعبئة المناطقية وداؤها المزمن، الذي تسبب بنكبات لسكانها وحق الوافدين إليها من المحافظات الأخرى.

وللمصداقية، فإن السعار المناطقي يحاصر عدن منذ عقود، ولعله نتيجة لسياسة «فَرِّق تَسُد» البريطانية التي حوّلت الجنوب بكله إلى مستعمرات متناحرة فيما بينها، وكان الإنجليز ينظرون إلى سكان الأرياف وكأنهم كائنات أخرى غير بشرية، الأمر الذي انعكس على ثقافة المدينة والتنظيمات السياسية المرتبطة بها، بما في ذلك الحزب الاشتراكي، الذي كان مُجزّأً إلى طوائف مناطقية وقبلية، وتجلى حجم التعبئة والتحريض فيما بينها خلال أحداث يناير 1986.

ونتذكّر في حرب 1994 الشهادات التي كان ينقلها التلفزيون الرسمي عن حجم الانتهاكات المناطقية بحق القاطنين في عدن من الشماليين وغير الشماليين، وقد سرّع شبح الرعب المناطقي سقوط الحزب الاشتراكي وأفول شمس اليسار في الجنوب إلى الأبد، ولكن السياسات القمعية التي تلت الحرب أسهمت في إذكاء المناطقية من جديد، وكانت سببًا في اندلاع الحراك الجنوبي عام 2007، وقد رافق ذلك الحراك ممارسات مناطقية طالت الكثير من المواطنين لمجرد أنهم من أبناء الشمال.

وفي عام 2015، ومع نقل العدوان حكومة الخونة إلى عدن، اضطر الكثير من الشماليين إلى الانتقال للجنوب حفاظًا على وظائفهم، ولكن سرعان ما أدى ذلك إلى جرائم وانتهاكات مروّعة بدعم تحالف العدوان الذي أشرف على الأغلب منها، وكان لحزب الإصلاح ودعاته النصيب الأكبر من تلك الانتهاكات، رغم ترحيبه بالعدوان وتشجيعه للسياسات المناطقية التي تبناها نظام الفار هادي، وجعل منها نهجه للسنوات العشر اللاحقة.

وقد أدى الاختلاف بين فصائل المرتزقة في أغسطس من عام 2019 إلى موجة أخرى من الانتهاكات المناطقية أشرف عليها عناصر ما يُسمّى بالمجلس الانتقالي، وكان لها أرقام كبيرة من الضحايا الشماليين، إلا أن غياب الإحصائيات الرسمية والتشجيع الخليجي لها فاقم المعضلة، وبات الشمالي مستباح المال والعِرض بمجرد أن تطأ قدماه أرض الجنوب، حتى لو ذهب إلى هناك بغرض السفر للخارج بعد أن أغلقت دول العدوان المنافذ الآمنة في الشمال بدوافع إجرامية.

وحتى موظفو شركة اليمنية للطيران من أبناء المحافظات الشمالية مُنعوا من ممارسة وظائفهم في عدن، وحلّ محلهم آخرون بدوافع مناطقية، ومؤخرًا، ومع نقل المنظمات الأجنبية موظفيها إلى عدن، عادت المأساة إلى السطح، فالموظف الشمالي يتعرض لتعسفات يومية من قبل عناصر الانتقالي، أقلها التهديد بالقتل والتصفية الجسدية له ولأفراد أسرته، وتُضطر المنظمات إلى الخنوع والتعايش مع ذلك التعسف حتى لا تتعارض مهامها مع إملاءات الرياض وأبوظبي، ولو أن بعضًا من ذلك حدث في صنعاء والمناطق الحرة لاختلف الأمر، ولصدحت بالصراخ والردح الإعلامي المعروف عنها.

ومن الشواهد المتكررة أيضًا، فرض نقاط فرز مناطقي داخل مدينة عدن، حيث يتعرض المواطن للسؤال عن محل الميلاد واللهجة والهوية قبل السماح له بالمرور، وهي ممارسات وثّقتها شكاوى حقوقية متعددة، وتحوّلت إلى واقع يومي في عدد من الأحياء، ما جعل المدينة ساحة للارتياب والكراهية بدل أن تكون فضاءً مدنيًا آمنًا.

كما شملت الانتهاكات حرمان طلاب الجامعات من أبناء المحافظات الشمالية من مواصلة دراستهم في جامعات عدن، سواء عبر التهديد المباشر أو التضييق الإداري أو التحريض الإعلامي، الأمر الذي أدى إلى تسرب عدد كبير منهم، وانعكس على حق التعليم بوصفه حقًا إنسانيًا لا يجوز تقييده بالانتماء الجغرافي.

وتظهر المناطقية أيضاً بوضوح في ملف السكن، إذ اضطر كثير من الشماليين إلى مغادرة منازلهم المستأجرة قسرًا بعد تهديد الملاك أو إجبارهم على الإخلاء بدافع الضغط الاجتماعي أو الخوف من الملاحقة، ومنع كثير من الشماليين من الوصول إلى الخدمات الأساسية، سواء في المرافق الصحية أو المعاملات الإدارية أو حتى إجراءات السفر، حيث تُستخدم المناطقية كأداة ابتزاز وإذلال.

وفي قطاع العمل، لا يقتصر الإقصاء على الوظائف الحكومية، بل يمتد إلى القطاع الخاص، حيث يُشترط الأصل المناطقي للتوظيف في عدد من الشركات والمؤسسات، أو يتم فصل العامل تحت ذرائع أمنية وواهنة، وهو ما رسّخ الإقصاء بوصفه سياسة غير معلنة لكنها مطبّقة على نطاق واسع.

أما الخطاب الإعلامي، فقد لعب دورًا محوريًا في تكريس التعبئة المناطقية، من خلال توصيفات تحريضية وتصنيفات جماعية تُحمِّل فئة كاملة مسؤولية أحداث سياسية وعسكرية، وهو خطاب مهّد نفسيًا واجتماعيًا لتبرير الانتهاكات، وجعلها مقبولة أو مسكوتًا عنها، خاصة عندما اجتمع ذلك مع الدعم والتمويل الخليجي لتعم المناطقية حتى أبناء الجنوب أنفسهم، وهو ما نراه اليوم في حضرموت والمهرة.

وهكذا، فإن التخلف المناطقي لا يدمّر النسيج الاجتماعي فحسب، بل يعطّل أي أفق للتنمية والاستقرار، ويُبقي عدن رهينة دوائر الفشل والتبعية، فيما تغيب الدولة وتتهشم فكرة العيش المشترك. ولن يكون الخروج من هذا الجحيم ممكنًا ما لم يُنظر إلى المناطقية باعتبارها عدوًّا للتقدم، ومظهر صارخ من مظاهر التخلف الاجتماعي، فحين يُقاس الإنسان بمكان ولادته لا بكفاءته، وحين تُسحق قيم المواطنة لصالح العصبية، تتراجع عدن من فضاء مدني إلى بيئة بدائية تحكمها الغريزة لا القانون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد محسن الجوهري

spot_imgspot_img