ذات صلة

الأكثر مشاهدة

حزب الله: تدنيس المصحف الشريف جريمة أمريكية مدعومة صهيونياً تستهدف الإسلام وقيم الإنسانية

أدان حزب الله اللبناني، بأشدّ العبارات، الجريمة الآثمة التي...

الإساءة للقرآن.. ثقافة أمريكية متجذّرة

تُمثّل جريمة الإساءة إلى القرآن الكريم التي أقدم عليها...

شتاء الموت في غزة.. بردٌ قاسٍ وفيضانات ومياه مُجاري تحاصر الناجين من حرب الإبادة الصهيونية

في قطاع غزة المحاصر، لا يزال الفلسطينيون يدفعون ثمن عدوانٍ لا يتوقف، حتى بعد أن خفت صوت القنابل. شتاء قاسٍ يضرب القطاع المنكوب، فيما يواجه مئات الآلاف من النازحين البرد والمطر بلا جدارٍ يحميهم ولا سقفٍ يأويهم؛ خيام مهترئة، مبانٍ مدمرة، وبنية تحتية سوّاها الاحتلال بالأرض، لتتحول أولى العواصف إلى كارثة جديدة فوق ركام حرب مستمرة منذ أكثر من عامين.

صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية كشفت أن ثلاثة رُضّع قضوا منذ بداية الشتاء بسبب انخفاض حاد في حرارة أجسادهم، بعد أن غمرت مياه الأمطار خيام عائلاتهم، في مشهد يلخّص قسوة الحياة في غزة ما بعد الإبادة، حيث تتحول برودة الليل إلى سلاح صامت يكمل ما بدأته طائرات ومدفعية الاحتلال.

في مخيمات خان يونس ورفح ودير البلح، تعيش عائلات كاملة في خيام نُصبت على أراضٍ منخفضة؛ ما إن تهطل الأمطار حتى تتسلل المياه والرطوبة إلى كل شيء: الأرض، الأغطية، الملابس، وحتى أجساد الأطفال. ينام الصغار بملابس مبللة، يرتجفون طلباً لدفءٍ مفقود، بينما الأمهات يحاولن عبثاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه من فراش مغمور بالطين والمياه.

العواصف الأخيرة أغرقت مخيمات بأكملها، وحوّلت الطرق المدمَّرة بفعل القصف إلى مستنقعات من الوحل, وتسببت في انهيار مبانٍ متضررة لجأت إليها عائلات هرباً من الخيام، فسقط قتلى تحت الأنقاض في صمتٍ تام، بعيداً عن عدسات العالم الذي اعتاد مشاهد الدم الفلسطيني.

ومع تدمير شبكات المياه والصرف الصحي بفعل القصف والحصار، اختلطت مياه الأمطار بمياه المجاري، لتغمر الشوارع ومناطق الإيواء، وتُضاف إلى سجل الجريمة مشاهد أخرى من الإهمال المتعمد لصحة الناس وأرواحهم، في وقت تحذّر فيه المنظمات الأممية من ارتفاع مخاطر الأمراض التنفسية والأوبئة بين الأطفال وكبار السن.

المتحدث باسم اليونيسيف، جوناثان كريكس، الذي يتواجد حالياً في غزة، يصف جزءاً من الكارثة قائلاً إن درجات الحرارة ليلاً تهبط إلى ثماني أو تسع درجات مئوية، بينما تعيش آلاف العائلات في خيام مرتجلة تضربها الرياح، لا تحميها سوى أغطية بلاستيكية هشة، في تأكيد أن ما يعانيه أهل غزة ليس مجرد “سوء طقس” بل جريمة حصارٍ مكتملة الأركان.

ووفق تقديرات الأمم المتحدة، فإن نحو 1.3 مليون فلسطيني لا يمتلكون مأوى لائقاً، فيما يعيش حوالي 850 ألفاً في 761 موقع نزوح؛ كثير منها أنشئ على عجل في مناطق منخفضة شديدة التعرض للفيضانات، وافتقرت لأبسط مقومات الحماية من البرد والمطر، لتتحول إلى مصائد موت بطيء.

فرق الدفاع المدني تتحدث عن خيام غرقت بالكامل، وعائلات اضطُرّت لقضاء الليل واقفة أو في العراء، لأن الأرض داخل المخيم تحولت إلى بركة مياه آسنة. تقول إحدى النازحات، ميرفات (44 عاماً): “لا يوجد شيء.. ولا حتى جدار نتكئ عليه”؛ جملة تختصر حالة شعب تُرك وحيداً في مواجهة القصف أولاً، ثم الجوع، ثم البرد والفيضان.

وفي دير البلح وسط القطاع، تتضاعف المأساة؛ النازحون لا يملكون سوى “أغطية بلاستيكية ممزقة” يحاولون بها ستر خيامٍ لا تصمد أمام المطر والرياح، فتغرق الأرض بالمياه، وتغرق معها آخر ما تبقى من الإحساس بالأمان. آلاف الخيام تضررت أو أتلفت بفعل المنخفضات الجوية، لتُضاف إلى قائمة الخسائر التي صنعها الاحتلال عن سابق إصرار.

أمام هذا الواقع الوحشي، يجد الفلسطيني في غزة نفسه بين خيارين أحلاهما مرّ: خيمة لا تقي من البرد ولا المطر، أو مبنى متصدع مهدد بالانهيار في أي لحظة. خلال الأيام الماضية، استشهد ما لا يقل عن 11 شخصاً نتيجة انهيار مبانٍ مدمرة جزئياً لجأت إليها عائلات بحثاً عن قدر من الحماية المؤقتة.

في حي تل الهوى بمدينة غزة، قررت ابتسام مهدي (44 عاماً) البقاء في شقتها المتضررة داخل مبنى من ثلاثة طوابق، رغم أن قذيفة دبابة إسرائيلية أصابت أحد أعمدته، فمالت الجدران، وتشققت الأسقف. تقول: “عندما ينزل المطر أستيقظ وأنا مبللة، الماء ينساب من السقف على وجهي، والهواء يدخل من كل مكان.. حتى لو أشعلنا التدفئة لا يدوم الدفء”، لكنها رغم ذلك تؤكد: “بهذا الوضع، هو أفضل من الخيمة”، في شهادة أخرى على حجم الكارثة.

ورغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ شكلياً، ورغم الحديث عن تخفيف محدود للقيود على دخول المساعدات، فإن الحاجة الإنسانية في غزة ما تزال هائلة، والشتاء تحوّل إلى جبهة حرب إضافية يواجهها المدنيون وحدهم. المنظمات الدولية تحذّر من أن البرد لم يعد مجرد فصل قاسٍ، بل خطر حقيقي على حياة مئات الآلاف، ولا سيما الأطفال الذين يدفعون ثمن الحصار والعدوان بأجسادهم الضعيفة.

هكذا تبدو غزة اليوم: مدينة محاصرة بين نار الاحتلال وبرد الشتاء، بين فيضانات الأمطار ومجارٍ مكشوفة، وبين خيام ممزقة وأنقاض متصدعة؛ شعبٌ أعزل يواجه منظومة قتل صهيونية مدعومة بصمت دولي، ولا يجد حتى جداراً يتكئ عليه، إلا جدار إيمانه وصموده وإصراره على الحياة في وجه مشروع يُصرّ على أن يكون عنوانه: “الموت للفلسطيني… والبقاء للاحتلال”.

spot_imgspot_img