لم تكن شعبية “الشرع” — الاسم الحقيقي لأبو محمد الجولاني، وليدة معركة ميدانية ناجحة أو خطاب إعلامي مؤثر فحسب، بل هي نتاجُ فراغٍ فكري وعقائدي كبير تركته السلطة السعودية في نفوس الشباب الوهابي، بعد أن تخلّت عن ميراثها الديني المتطرف لصالح مشروع الترفيه والانفتاح المفاجئ، والذي صدم حتى أكثر الناس ولاءً للدولة.
في هذا المشهد المشحون بالتحولات، يظهر الجولاني ليس كزعيم تنظيم محلي، بل كرمز لعقيدة تم خنقها في مهدها، ثم أُعيد إحياؤها في قوالب جهادية ثورية في الشمال السوري. فبينما تقمع السلطة السعودية كل مظهر من مظاهر الدعوة الوهابية داخل المملكة، يُسمح للجولاني بأن يُقدَّم كقائد وهابي “أصيل”، تمرد على “الواقع الدولي”، ورفع راية “الحكم بالشريعة”، وقاتل “النظام النصيري”، وواجه إيران، و”لم يهادن الغرب”.
ولذلك، يرى فيه كثيرٌ من الشباب السلفي في المملكة امتدادًا صادقًا لمشروع الدولة السعودية الأولى، قبل أن تتحول هذه الدولة إلى خادم لمشاريع أمريكا و”إسرائيل”، كما يقول خصوم النظام. فالجولاني لم يُبدّل منهجه رغم شدة الحصار، ولم يرفع راية بيضاء، بل يُقدّم نفسه اليوم بربطة عنق لا تمحو جذوره السلفية، ولا تلغي ماضيه العسكري.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، فقد أصبحت الساحة السعودية، بحسب تحليلات سياسية متعددة، أرضًا خصبة للانفجار الرمزي، حيث تبدو الدولة في حالة تناقض داخلي بين خطاب التغريب وسياسات الماضي الديني. وتبدو القيادة الجديدة، بقيادة محمد بن سلمان، وكأنها تمهد عن غير قصد إلى زوال الحكم الذي تسعى لتثبيته، وهنا يحضر نيكولو مكيافلي في أقوى تمثلاته: ففي كتابه الشهير الأمير، يحذر من أن أي تغيير جذري في ثقافة الحكم هو أخطر تهديد للحاكم نفسه، لأنه يُعدّ الجماهير لقبول تحوّل قد يُطال رأس النظام، لا البنية فقط. وبالفعل، فإن ما كان يُعتبر في ثقافة الدولة كفرًا وفسوقًا من الغناء المختلط، إلى النوادي الليلية— أصبح اليوم سياسة رسمية علنية، ما أثار ردّ فعل عكسيٍّ قويٍّ داخل التيار الوهابي التقليدي، الذي لم يجد سبيلًا للتعبير سوى التماهي مع مشروع خارجي بديل… هو مشروع “الشرع”.
وبما أن التغيير قادم لا محالة، في ظل هذا الصراع العميق بين “العلمانية المتعجلة” التي يقودها ابن سلمان، و”الحنين الوهابي” الذي يتنامى في العقول، فإن الجولاني بات مرشحًا طبيعيًا لخلافة آل سعود، خاصةً في ظل عدة مؤهلات خطيرة:
1. التدين الوهابي المتشدد، الذي يُعد أكثر نقاءً في نظر الشباب من الدين الرسمي المُهادِن.
2. التوافق النفعي مع “إسرائيل” — فهو لم يهاجم “إسرائيل” يومًا رغم عدائه الشديد لإيران، وهو ما يُشبه كثيرًا المعادلة السعودية المعاصرة.
3. اليد المغموسة في الدم — لا يتردد الجولاني في القتل، والبطش، والتصفية، وهي ميزات يُعجب بها التيار الوهابي الذي يقدس الحسم، ولا يثق باللين.
4. الخطاب المنضبط سياسيًا — فالجولاني لا يُكثر من الفتاوى، بل يتحدث كقائد دولة، وهذا ما يمنحه هالة رجل الحكم وليس رجل الدعوة فقط.
شعبية الجولاني في المملكة لا تقتصر على تأييد صامت، بل تحوّلت إلى موجات علنية من المبايعة الرمزية، خاصة على منصات مثل “تليغرام” و”X”، حيث تنتشر صوره مرفقة بعبارات مثل: “الشرع أولى بالحكم”، “نبايعك يا أبا محمد”، و”أنت الخليفة المنتظر”. وقد وصل الأمر إلى أن بعض دعاة التيار السلفي في المملكة بدأوا بإعادة نشر مقتطفات من خطاباته، بل واستحضار نبوءات سابقة تتحدث عن خلافةٍ قادمة من الشام.
ومن اللافت أن هذه المبايعات تتقاطع مع ما بشر به الداعية محمد العريفي قبل عقد من الزمن، حين كان يتحدث عن راية سوداء قادمة من الشام تُعيد مجد الأمة، وهو ما وجده البعض يتحقق اليوم في صورة الجولاني.
أما المصير الذي ينتظر “الشرع”، فهو بين خيارين: إما أن يلاقي مصير محمد مرسي، حين تسلّق إلى الحكم مستندًا إلى شعبية كاسحة ولكن بلا حماية، فكان السقوط مدويًا، أو أن يوظف شعبيته المتزايدة في المملكة ويطرق أبوابها من الداخل، باعتباره “قائد الجيل الجديد”، فيطيح بالنظام السعودي حين يحين الوقت، ويحقق بذلك حلم “الخلافة الجهادية المنضبطة”، التي تُرضي العقل السلفي والهاجس الأمني معًا.
الخلاصة أن صعود الجولاني في المخيال الشعبي السعودي لم يعد نكتةً ولا فانتازيا، بل هو ردّ فعل اجتماعي عميق، على مشروع تغريبي نُفِّذ بفظاظة وصلف، فخلق فراغًا عقائديًا يحتاج إلى من يملأه. وها هو الجولاني يقدّم نفسه كمن يحمل “الشرعية الغائبة”، ويبدو أن كثيرًا من الشباب السعودي قد وجدوا فيه ما لم يجدوه في آل سعود.