لم يشهد الكيان الصهيوني مكاسب إستراتيجية بحجم تلك التي تحققت له في سياق الخطابات المذهبية، وعلى وجه الخصوص تحت لافتة “الدفاع عن السنّة والصحابة”. فقد أتاح هذا الإطار الطائفي توظيف الصراعات داخل العالم الإسلامي لضرب القوى الرافضة للتطبيع والمقاومة، وذلك بوسائل داخلية وبتمويل مباشر من دول تُعد ضمن المنظومة الإسلامية. وبهذا، أُفرغت الساحة من التضامن الحقيقي مع القضية الفلسطينية، وتُرك قطاع غزة يواجه الحصار والموت وحده، في ظل مناخ إقليمي يُجرّم التعاطف معها بذريعة الانحياز المذهبي. وهكذا، لم تُقدم تلك الدول دعمًا يُذكر لغزة، وفي الوقت نفسه، مارست ضغوطًا سياسية ودينية لردع أي طرف آخر يسعى لنصرتها.
إن حصار غزة وخذلانها لم يكن حدثًا عابرًا أو وليد اللحظة، بل جاء نتيجة مسارٍ تم التمهيد له مبكرًا عبر توظيف ممنهج للخطاب المذهبي، دعمه ورعاه عدد من الدول الخليجية. هذا التوظيف الطائفي استُخدم كأداة لإقصاء وتحييد أي جهة تتبنى موقفًا داعمًا للقضية الفلسطينية، وخاصة الجهات التي تنتمي إلى محور المقاومة. ومن خلال فهم دقيق للواقع العربي، أدركت القيادات الصهيونية – بخبرتها المتراكمة – أن المجتمعات العربية في أضعف حالاتها، وأن الاستقطاب الطائفي أكثر قدرة على تحريكها من قضايا مركزية كالدفاع عن فلسطين.
في هذا السياق، لعب الإعلام الخليجي دورًا محوريًا في ترسيخ الصراعات المذهبية، حتى أصبحت تتصدر الخطاب العام وتطغى على القضية الفلسطينية التي تراجعت إلى موقع ثانوي في الوعي الجمعي. وكنتيجة لذلك، أصبح استهداف سكان غزة عبر الحصار والتجويع والعدوان العسكري أمرًا لا يثير ردود فعل تُذكر، طالما أنه لا يتقاطع مع الأولويات الطائفية التي أعادت تشكيل توجهات الرأي العام في كثير من الدول العربية.
ففي سورية، كان إسقاط نظام الأسد هدفًا إستراتيجيًا، لأنه رفض الخنوع للكيان الصهيوني، وفتح أراضيه للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، واحتضن قيادة حماس لسنوات. ولهذا لم يكن غريبًا أن يحتفي رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو علنًا بسقوط الأسد من الجولان السوري المحتل، قائلاً: “سقوط النظام في دمشق يخلق فرصًا استراتيجية لإسرائيل”. وقد احتفت قناة الجزيرة بهذه التصريحات، في تقارير ناعمة تُسوّق على أنها “فتح ديمقراطي” جديد في بلاد الشام!
وفي اليمن، جرى تصوير العدوان كحرب ضد النفوذ الإيراني، بينما الواقع أنه استهداف مباشر لحركة أنصار الله بسبب دعمها الصريح للقضية الفلسطينية، ورفضها التطبيع، وتبنيها خطابًا ثوريًا مناهضًا لأمريكا و”إسرائيل”. وقد شاركت الإمارات والسعودية في هذه الحرب، بغطاء أمريكي مباشر.
وفي لبنان، يُعاد المشهد نفسه. ففي 12 يوليو 2025، خرج المبعوث الأمريكي الخاص إلى سورية ولبنان، “توم براك”، بتصريح علني، يهدد فيه بأن لبنان لن يظل خارج السيطرة ما دام حزب الله يحتفظ بسلاحه متوعداً السيادة اللبنانية بتكفيري سورية، الترجمة العملية لهذا التهديد ظهرت سريعًا في مواقف بعض السياسيين اللبنانيين، وعلى رأسهم نواف سلام الذي يطالب علنًا بتجريد حزب الله من سلاحه. وهنا لا يمكن تجاهل دور السفارة الأمريكية في بيروت، التي تمثل غرفة العمليات السياسية والإعلامية لكل هذا الضغط.
السيناريو واضح: إما أن يسلّم حزب الله سلاحه، فيُفتَح الباب للتكفيريين السوريين للدخول إلى لبنان، أو يُجبر على مواجهة داخلية قد تعيده إلى مربع الحرب الأهلية. وفي كلتا الحالتين، تكون النتيجة واحدة: تفكيك المقاومة وتجريدها من قوتها في لحظة إقليمية حرجة.
والأدهى من ذلك، أن الخطاب الطائفي الذي يُرفع في وجه حزب الله ليس إلا أداة صهيونية بلباس “سُني”، فهل يُعقل أن يكون الدفاع عن الأمة في مواجهة الاحتلال “تشيعًا”، بينما الانبطاح والتطبيع “دفاعًا عن الصحابة”؟!
إن العالم العربي يشهد تحولًا جذريًا في منظومة المفاهيم والثوابت، ما مكّن الخطاب الطائفي من تبرير العدوان على فصائل المقاومة، ومهاجمة الجهات الداعمة لفلسطين، وتصوير المواقف المبدئية المناهضة للصهيونية على أنها مؤامرات خارجية. وهكذا تحوّل الدفاع عن القدس إلى “خيانة”، بينما أصبح التنسيق مع الاحتلال “مصلحة سنية”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد محسن الجوهري