خيارات متباينة على الطاولة
قبل الاجتماع، ناقشت قيادة العدو مسارين رئيسيين: الاحتلال الكامل للقطاع وهو الخيار المفضل لنتنياهو وحلفائه في اليمين المتطرف، أوعملية محدودة تتضمن محاصرة مناطق المقاومة وتكثيف الضربات الجوية وفق مقترح رئيس الأركان إيال زامير وعدد من كبار الضباط، بهدف تقليل الخسائر وتجنب عبء إدارة القطاع.
في نهاية المطاف، تم التوصل إلى حل بين الطرفين، يشمل غزو مدينة غزة -باعتبارها حسب مجرمي الحرب- آخر معاقل المقاومة الحضرية خارج السيطرة الصهيونية، وهذا يعني احتلال 10% إضافية من أراضي القطاع، وحصر السكان في ما تبقى من نحو 15% من مساحة القطاع. ويجري -حسب القرار- تنفيذ العملية تدريجيًا وبأقل من نصف القوات اللازمة للاحتلال الشامل.
وتتضمن الخطة إجلاء نحو مليون مدني بحلول سبتمبر، وهو ما يفرض تحديات وتداعيات متوحشة على السكان في ظل محدودية أماكن الإيواء، والتي لا يهتم بها مجرمو الحرب، بقدر ما يهدفون إلى مزيد من الضغط، وتحقيق أهداف التهجير القسري من القطاع.
خلافات عميقة
تحت ضغط من قيادات وضباط الجيش الصهيوني، كان نتنياهو قد تراجع عن وعوده السابقة – ومنها تصريحاته لشبكة فوكس نيوز حول “استعادة غزة بالكامل” – وهو الأمر الذي أثار غضب حلفائه اليمينيين، سموتريتش وبن غفير، ويرى نيمرود نوفيك، المستشار السابق لرئيس الوزراء شمعون بيريز، أن ما جرى يمثل حالة نادرة فرضت فيها المؤسسة الأمنية قيودًا فعلية على قرارات الحكومة.
صراع جديد حول التعيينات العسكرية
في مؤشر إضافي على عمق الأزمة، اندلع خلاف علني بين وزير الحرب الإسرائيلي يوآف كاتس ورئيس الأركان إيال زامير بشأن من يملك سلطة إجراء التعيينات في الجيش. واتهم كاتس زامير بعقد اجتماع للتعيينات دون تنسيق أو موافقة مسبقة، مؤكّدًا أن “القيادة العسكرية خاضعة لتوجيهات وزير الأمن”.
وردّ الجيش ببيان رسمي قال فيه إن “رئيس الأركان هو الذي يقرر التعيينات”، وأن النقاش كان مقررًا مسبقًا ويهدف لترقية قادة ميدانيين في جبهات القتال.
التراشق الإعلامي تواصل مع بيان إضافي من جيش العدو يؤكد أن سلطة التعيين برتبة عقيد فما فوق تبدأ عند رئيس الأركان، ثم تُعرض على الوزير للموافقة أو الرفض. لكن كاتس ردّ مجددًا مشددًا على أن الإجراء المتبع يُلزمه بالمشاركة في اختيار المرشحين، ملوّحًا برفض بعض التعيينات المتعلقة بجبهة غزة قبل “حسم حماس”.
رئيس المعارضة يائير لابيد علّق على الأزمة قائلًا: “في هذه الحكومة المجنونة حتى حدث أساسي مثل تعيين ضباط في الجيش لا يمر دون تسريبات وشجارات واتهامات. هكذا لا تُدار دولة ولا يُقاد جيش” حيب لابيد.
إلى جانب الخلافات السياسية والعسكرية، أظهر تقدير جديد لجيش الاحتلال وجود فجوات خطيرة في الاستعدادات الميدانية.
بحسب ما كشفته القناة 12 الإسرائيلية، يعاني الجيش من نقص يقدّر بنحو 10,000 جندي – بينهم 7,000 مقاتل و3,000 عنصر دعم قتالي – إضافة إلى فجوات في جاهزية الدبابات وناقلات الجند المدرعة بسبب نقص قطع الغيار.
هذا النقص يعود جزئيًا إلى حظر غير معلن على بعض الإمدادات من الخارج، بما في ذلك المحركات المستوردة من ألمانيا ونواقل الحركة التي تعمل منذ 22 شهرًا من القتال المتواصل.
التقرير أشار إلى أن الحفاظ على جاهزية كاملة أصبح صعبًا، ما يؤثر على الجداول الزمنية والتخطيط العملياتي، خصوصًا في ظل مطالبة المستوى السياسي بالاستعداد لعملية جديدة في غزة.
زعيم المعارضة يائير لابيد علّق على هذه المعطيات بالقول: “الجيش يقول بأوضح شكل ممكن: لا يوجد لدينا عدد كافٍ من المقاتلين لتنفيذ المهام والحفاظ على أمن إسرائيل، وفي المقابل، يواصل نتنياهو تشجيع التملص الجماعي من الخدمة والتمييز بين دم ودم”.
الأبعاد الإنسانية والدبلوماسية
حرب الإبادة الوحشية المستمرة منذ 22 شهرًا أسفرت عن استشهاد أكثر من 61 ألف فلسطيني، بينما يُعتقد أن 20 أسيرا إسرائيليًا ما زالوا محتجزين في غزة.
كما أدى الحصار المفروض منذ مارس إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وصولًا إلى انتشار الجوع على نطاق واسع، وارتفع عدد ضحايا التجويع الممنهج لحكومة العدو إلى أكثر من 270 شهيدا، بينهم أكثر من مائة طفل.
وفيما يخص “شهداء لقمة العيش” قالت الصحة في غزة إنها سجلت خلال يوم واحد 29 شهيدًا و127 إصابة أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات، ليرتفع الإجمالي إلى 1,807 شهداء وأكثر من 13,021 إصابة.
وأقر البيت الأبيض بأن المساعدات الجوية خيار غير واقعي، لأن عمليات الإسقاط الجوي لن تتمكن حتى من الاقتراب من تلبية احتياجات السكان البالغ عددهم 2.1 مليون فلسطيني. رغم هذا الاقرار إلا أنه “لم يكن الأمر جزءاً من المناقشات”، كما نقلت وكالات إعلامية عن أحد المسؤولين الأمريكيين طلب عدم كشف هويته. مؤكدا أن “الأمر لم يكن مطروحاً للنقاش الجاد، لأنه ليس خياراً جدياً في هذه المرحلة”.
وعلى الصعيد الدولي، وجهت ألمانيا ضربة دبلوماسية للكيان بإعلانها وقف تصدير المعدات العسكرية التي يمكن استخدامها في غزة، ما عمّق مخاوف الجيش الصهيوني من تدهور صورة “إسرائيل” عالميًا.
توتر إعلامي واستهداف الصحفيين
التسريبات اليومية كشفت ضغوطًا من وزراء نتنياهو للسيطرة الكاملة على القطاع، مقابل تحذيرات زامير من عواقب ذلك، وهاجم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ونجل نتنياهو قيادة الجيش، متهمين إياها بمحاولة “انقلاب عسكري”. وفي المقابل، ظهر عدد من القادة العسكريين والأمنيين المتقاعدين في مقطع مصوّر يدعون فيه نتنياهو إلى إنهاء الحرب.
في خضم هذه الأجواء، استشهد الصحفي الفلسطيني أنس الشريف في قصف إسرائيلي متعمد على مدينة غزة، ليصبح ضمن 237 صحفيًا فلسطينيًا قُتلوا منذ اندلاع الحرب، وفق مكتب الاعلام الحكومي في غزة.
خلاصة المشهد:
تكشف هذه التطورات أن الكيان الإسرائيلي يعيش واحدة من أعمق أزماته الداخلية منذ عقود، حيث تتقاطع الانقسامات السياسية مع الخلافات العسكرية الحادة، في وقت تتصاعد فيه الضغوط الدولية وتتعاظم الكارثة الإنسانية في غزة. وبينما يحاول نتنياهو وحكومته المضي في سياسات الحرب والتهجير، تتآكل جاهزية الجيش وتتآكل صورة “إسرائيل” أمام الرأي العام العالمي، ما يفتح الباب أمام مزيد من العزلة السياسية والتآكل الداخلي، في ظل صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقه في أرضه وحريته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقرير | علي الدرواني