المفاوضات لم تفضِ لنتائج وحلول وسط ولا يمكن اعتبارها ناجحة، بيد أنّ تراجع الطرفين في المرحلة الأخيرة من التفاوض عن بعض المواقف التكتيكية أدّى لنجاح مؤقت في عدد من الملفات.
يشهد الموقف التفاوضي بين المقاومة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية حالة من الجمود خيّمت على مسار المفاوضات، بعد الانسحاب المفاجئ للطرفين الأميركي والإسرائيلي من المفاوضات مؤخّراً، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن رفضه الاتفاقات الجزئية وأنه يريد صفقة شاملة ورزمة واحدة، على الرغم من أنّ نتنياهو هو من اخترع الاتفاق المرحلي ورفض عروض الطرف الفلسطيني والوسيطين المصري والقطري بإبرام صفقة شاملة، بيد أنّ رغبة نتنياهو في تطويل أمد الحرب إلى أقصى حدّ ممكن، أجهضت المساعي التفاوضية كافة، الأمر الذي حوّل المشهد التفاوضي إلى حالة من انعدام اليقين، خصوصاً بعد اتخاذ المجلس الأمني والسياسي الإسرائيلي المصغّر “الكابينت”، قراراً باحتلال كامل قطاع غزة أو ما أسماه بالسيطرة الأمنية، واعتمد الكابينيت مبادئ لإنهاء الحرب ترتبط بتحقيق خمسة أهداف هي:
1. نزع سلاح المقاومة.
2. إعادة جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات.
3. نزع سلاح قطاع غزة – ليس فقط نزع سلاح المقاومة، بل أيضاً ضمان عدم تصنيع الأسلحة في القطاع وعدم تهريبها إليه.
4. سيطرة أمنية إسرائيلية على قطاع غزة، بما في ذلك المحيط الأمني – المنطقة العازلة.
5. حكومة مدنية بديلة، ليست حماس ولا السلطة الفلسطينية.
إنّ طول أمد الحرب التي أصبحت تسجّل كأطول حرب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، يفترض أن تدفع طرفي الصراع إلى القبول بتسوية معقولة، بيد أنّ المعوّقات الكبرى أمام الوصول لاتفاق، حالت دون نجاح الحلول والتسويات، وأبرز المعوّقات تتمثّل في:
– الحكومة الإسرائيلية القائمة ذات التوجّهات الأيدلوجية اليمينية المتطرفة،التي تقدّم مفهوم الحفاظ على الأرض على المفهوم الإسرائيلي التقليدي بالحفاظ على الإنسان اليهودي، وذات التطلّعات التوسّعية والاستعمارية المرتبطة بخيالات أيدلوجية مسيانية.
– الدوافع السياسية والحزبية الداخلية للحكومة الإسرائيلية والدوافع الشخصية لرئيسها نتنياهو وسعيه الدائم للحفاظ على ائتلافه الحاكم .
– اعتبار جهات وازنة داخل الأوساط الإسرائيلية بأنّ الحلّ الاستراتيجي لمعضلة غزة يتمثّل بتحقيق الاحتلال والتهجير وأنّ الفرصة مواتية لذلك.
– الإدارة الأميركية بقيادة ترامب التي تقدّم لـ”اسرائيل” دعماً مطلقاً.
– غياب الضغط الحقيقي والفاعل من الأطراف العربية والإقليمية على “إسرائيل”.
باعتبار أنّ المفاوضات حتى الآن لم تفضِ إلى نتائج وحلول وسط فلا يمكن اعتبارها ناجحة، بيد أنّ تراجع الطرفين في المرحلة الأخيرة من التفاوض عن بعض المواقف التكتيكية أدى لنجاح مؤقت في عدد من الملفات، إلّا أنّ إصرار الجانب الإسرائيلي على عدم التعهّد بوقف الحرب، وتمسّك الجانب الفلسطيني بالحصول على ضمانات حقيقية لوقف إطلاق نار دائم عقّد المشهد التفاوضي.
إنّ الطرف الفلسطيني ملزم بالابقاء على التمسّك بضمانات وقف الحرب والانسحاب والإعمار والبند الإنساني، مع إبداء مرونة أكبر في ملف تبادل الأسرى والاستعداد الواضح لعدم المشاركة المباشرة في حكم قطاع غزة من دون التنازل عن ضرورة أن تحكم القطاع جهة فلسطينية متفق عليها، كما يمكن إبداء مرونة أكبر في موضوع تقديم ضمانات للالتزام بوقف إطلاق نار لسنوات مقبلة في مدة يتفق عليها الأطراف .
كما أنّ الطرف الفلسطيني لا يمكنه إلّا التمسّك باستراتيجيات التفاوض والصمود والمقاومة عبر:
– التمسّك بمسار التفاوض وعدم خلق ذريعة للطرف الإسرائيلي لاتهام الطرف الفلسطيني بالانسحاب من المفاوضات ما يمكّنه من التغوّل أكثر في الدم الفلسطيني.
– استخدام حرب الإعلام والحرب النفسية بشكل أكبر على الجانب الإسرائيلي وبالذات الرأي العامّ .
– تقديم ضمانات واضحة للأطراف بحسن نوايا الطرف الفلسطيني في التفاوض وأنّ هدفه الاستراتيجي في المرحلة المقبلة هو الإعمار وإعادة البناء والإغاثة من دون التنازل عن شرط الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية في نهاية الحرب .
– إبداء مرونة أكبر في ملف الأسرى .
– تعزيز التواصل مع الرأي العامّ الأميركي والغربي وإيصال الرواية الفلسطينية من دون تزييف .
– حثّ الوسيطان المصري والقطري لإبداء مواقف أكثر دعماً للطرف الفلسطيني، ولقد سعى الطرفان بشكل حقيقي للوصول إلى اتفاق شامل وعملا ضمن أدواتهما السياسية والدبلوماسية لتحقيق نجاح ما، بيد أنّ الطرفين باعتبارهما دولتين عربيتين يمكنهما ممارسة دور أكبر لصالح الطرف الفلسطيني وليس ممارسة دورهما كطرفين محايدين، خصوصاً أنّ الطرف الثالث هو الولايات المتحدة والتي لا يمكن اعتبارها وسيطاً نزيهاً إنما شريكاً في كل ما يمارسه الاحتلال على الشعب الفلسطيني.
وكما استخدم الطرف الأميركي أسلوب التهديد بالانسحاب من المفاوضات للضغط على الطرف الفلسطيني على الرغم من المرونة التي أبداها الطرف الفلسطيني من التفاوض، كان يجب على الطرفين العربيين قطر ومصر ممارسة دور أكبر من خلال التهديد بالانسحاب من التفاوض أو حتى تحميل الطرف الإسرائيلي المسؤولية عن عرقلة مسار المفاوضات، علماً أنّ الإدارة الأميركية تحمّل باستمرار الطرف الفلسطيني مسؤولية تعثّر المفاوضات، كما أنّ الطرف المصري لم يستخدم أدواته الدبلوماسية مثل: سحب السفير المصري من “تل أبيب” أو طرد السفير الإسرائيلي في القاهرة، والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية، والإعلان عن فتح معبر رفح من طرف واحد، وخطوات دبلوماسية أخرى.
أما بالنسبة للطرف القطري فكان يمكنه استخدام علاقاته الوثيقة مع الإدارة الأميركية واستثمار زيارة الرئيس “ترامب” للدوحة مؤخّراً والتي تخللتها اتفاقيات واستثمارات بأكثر من ترليون دولار، لتحقيق وقف إطلاق نار دائم في غزة.
إنّ التعثّر الظاهر في الموقف التفاوضي في ضوء تطوّرات المشهد السياسي والعسكري ومواقف الطرف الأميركي الداعم من دون كوابح لحكومة نتنياهو، وموقف الطرف الفلسطيني والوسيطين المصري والقطري، لا تشير إلى أنّ المسار التفاوضي أغلق بلا رجعة، بيد أنّ الموقف العامّ أصبح أكثر تأزّماً.