لم يعد خافيًا أن استمرار الحشد العسكري الأميركي في منطقة الخليج، ولا سيما في قطر والإمارات، إنما يمهّد لحرب كبرى ستكون ساحتها الأساسية هذه المرة قلب الجزيرة العربية نفسها. فالولايات المتحدة لا تتعامل مع هذه الدول كحلفاء، بل كأدوات متقدمة في معركتها ضد محور الجهاد والمقاومة الممتد من اليمن إلى إيران ولبنان وفلسطين. وحين تندلع المواجهة، فإن الخليج لن يكون بمنأى عنها، بل سيكون المصدر الأول للنيران، بما يحمله من قواعد عسكرية أميركية ومنظومات صاروخية تجعل من أراضيه أهدافًا مشروعة للردّ.
التجارب التاريخية تؤكد هذا المسار؛ فحينما استخدمت واشنطن العراق في الثمانينيات كساحة حرب ضد إيران، كانت النتيجة أن خرج العراق منهكًا، ثم سقطت بغداد تحت الاحتلال الأميركي عام 2003. واليوم يُعاد السيناريو ذاته بصورة أخرى في الخليج: قواعد عسكرية ضخمة، أكبرها قاعدة العديد في قطر، التي تُعد مقر القيادة المركزية الأميركية للمنطقة، فضلًا عن التوسع الإماراتي في استضافة القوات الأميركية والفرنسية في ميناء جبل علي وقاعدة الظفرة الجوية. هذه البنية العسكرية ليست لحماية الخليج كما تزعم واشنطن، وإنما لتحويله إلى رأس حربة في معركتها ضد خصومها.
وللمفارقة، فإن هذه الأنظمة الخليجية تمتلك الكثير مما يمكن أن تخسره، فهي التي صدّرت للعالم صورة الرفاهية الفائقة والبذخ الاستهلاكي، لكنها تغفل أن هذه المكاسب هشة، لأنها قائمة على استقرار أمني هشّ مرتبط بحماية أجنبية. وحين يندلع الصراع، ستصبح أبراج دبي وناطحات الدوحة والرياض أهدافًا مكشوفة، كما أثبتت الضربات اليمنية بالصواريخ والطائرات المسيّرة التي أصابت أرامكو في بقيق وخريص عام 2019، فأوقفت نصف إنتاج النفط السعودي في يوم واحد فقط.
وعلى النقيض من ذلك، تُظهر تجارب أميركا اللاتينية مسارًا مغايرًا؛ فدول مثل فنزويلا وبوليفيا وكوبا قاومت الهيمنة الأميركية رغم الحصار والانقلابات المدعومة من واشنطن. لقد أدركت شعوبها أن التبعية للولايات المتحدة لا تجلب سوى الفقر والتخلف والاستبداد، بينما الاستقلال يفتح أبواب التنمية والسيادة الحقيقية. فهوجو تشافيز في فنزويلا مثلًا واجه محاولات الانقلاب الأميركي عام 2002، لكنه استند إلى إرادة شعبية رافضة للتدخل الأجنبي، فحافظ على سيادة بلاده ومواردها النفطية. وكذلك فعل إيفو موراليس في بوليفيا حين طرد شركات الغاز الأميركية وأعاد ثروات بلاده للشعب، رغم الضغوط والحصار.
أما الخليج، فاختار الطريق المعاكس: تسليم موارده وقواعده وثرواته للمحتل الأجنبي، حتى صار رهينة للقرار الأميركي، ومستقبل شعوبه مرهون بمزاج البيت الأبيض. وإذا استمر هذا النهج، فإن نهايته لن تختلف عن مصير الشاه في إيران أو صدام حسين في العراق، حيث استُنزفا حتى السقوط، بينما ظلت واشنطن تبحث عن بدائل جديدة لخدمة مصالحها.
إن الفرق الجوهري بين أميركا اللاتينية والخليج أن الأولى سعت للتحرر من الهيمنة الأميركية لتصنع استقلالها، بينما الثانية ما زالت ترتمي في أحضان واشنطن، متوهمة أن حمايتها ستدوم، غير مدركة أن النتيجة الحتمية هي الخراب حين تشتعل المنطقة بحرب لن تبقي ولن تذر.”
“إن ما يجري اليوم في الخليج ليس مجرد صراع سياسي أو مناورة عسكرية، بل هو مسار يقود المنطقة نحو هاوية لا يمكن التراجع عنها. فالتبعية الكاملة للولايات المتحدة وتحويل الأرض العربية إلى منصة حربية ضد محور المقاومة يجعل الأنظمة الخليجية هدفًا مباشرًا لأي ردّ محتمل، كما أثبتت الضربات اليمنية المتكررة ضد مواقع استراتيجية في السعودية والإمارات. وإذا اندلعت الحرب الكبرى، لن تقتصر الخسائر على الأرواح والموارد فحسب، بل ستطال الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، لتصبح شعوب الخليج رهينة في يد قادة سلموا مصيرهم وأوطانهم للبيت الأبيض.
ومن هذه الزاوية، يبدو مصير المنطقة مرهونًا بإدراك هذه الأنظمة خطورة موقفها: فإما أن تعود إلى نهج استقلالي يحمي شعوبها ومقدراتها، أو أن تسقط في الفخ ذاته الذي وقع فيه العراق والشاه من قبل، لتشهد الجزيرة العربية أسوأ كارثة في تاريخها الحديث، مع انكشاف كامل للهيمنة الأميركية وفضح كل أوهام الأمن والرفاهية التي غُرست خلال العقود الماضية.”