لن يقبل اللبنانيون بالهزيمة، ولا بثقافتها. وسيظلّ هذا الجمهور، القادر على التضحية والصمود، مساهماً أساسياً في رسم مصير المنطقة ومستقبلها.
يبدو واضحاً أنّ المشهد الشعبي الكبير الذي تكرّس في إحياء الذكرى السنوية الأولى لشهادة سماحة السيد حسن نصر الله يشكّل رسالة قوية ومكثّفة لا يمكن للأطراف المحلية والإقليمية والدولية المعنية بلبنان تجاهلها.
لم يكن هذا الحشد الأول من نوعه؛ فقد سبقه حضور غير مسبوق في تاريخ لبنان أثناء تشييع السيد نصر الله، ثم تجلّت الترجمة السياسية الأولى في الأداء الانتخابي خلال الانتخابات البلدية، التي أكدت قوة الثنائي الوطني (حزب الله وحركة أمل) وحجمه الكبير في الطائفة الشيعية. إلّا أنّ بعض الأطراف اعتبرت أنّ المحطتين عكستا لحظة عاطفية عابرة ستنتهي مفاعيلها مع مرور الوقت، ولا يمكن البناء عليهما سياسياً على اعتبار أنّ الحشود المليونية في تشييع السيد كانت بمثابة وداع عاطفي لشخصية قيادية بارزة، وأنّ المشاركين سرعان ما سيقعون فريسة للحملة الإعلامية والسياسية الشرسة التي تهدف إلى إفقاد المقاومة وحزب الله الحاضنة الشعبية.
اليوم، وبعد عام على ذلك، يمكن القول إنّ هذه الزاوية من المشروع المعادي للمقاومة شهدت تراجعاً كبيراً. فقد استطاع جمهور المقاومة صياغة رواية مغايرة، ما أدخل الفريق المعادي مرة أخرى في حالة إرباك ناجمة بالدرجة الأولى عن عدم قدرته على توقّع أداء مجتمع المقاومة وفهم بيئته.
وفي قراءة سريعة للمشهد يمكن الإشارة إلى الملاحظات الآتية:
أولاً: شكّل الحشد رداً عملياً ومادياً وفعلياً على الاعتداءات الإسرائيلية المدعومة أميركياً. فقد ألقى العدو صواريخ أميركية الصنع على المدن والبلدات والقرى اللبنانية، وأسفر ذلك عن ارتقاء أكثر من 300 شهيد، ونفّذ أكثر من 4000 خرق منذ إعلان وقف إطلاق النار. والهدف من ذلك كان وضع جمهور المقاومة أمام معادلة مفادها أنّ استمرار احتضان وتبنّي خيار المقاومة سيكون له ثمن كبير في الأرواح والممتلكات ونمط الحياة. جاءت المشاركة الشعبية الكبيرة لتؤكّد أنّ المقاومة خيار مجتمعيّ ثابت مهما كانت الأثمان، بل عكست قناعة بأنّ كلفة خيار المقاومة تظل أقلّ من كلفة الاستسلام أمام هذا العدو.
ثانياً: شكّل الحشد الشعبي في كلّ فعّاليات الذكرى السنوية الأولى لشهادة السيد ردًاً على الحصار الدولي المستمر، وعلى قرارات منع إعادة إعمار القرى المهدّمة، وكذلك على مشاريع المناطق الاقتصادية العازلة التي يحاول الأميركيون فرضها على اللبنانيين ـــــ والتي، للأسف، تلقى موافقة غير معلنة من جهات أساسية في الحكومة اللبنانية بإملاءات أميركية.
ثالثاً: تميّز الحشد بالعاطفة الجيّاشة، لكنه في الوقت نفسه عكس بصيرة ووعياً لافتَين ظهرا في الشعارات والعبارات التي أطلقها المشاركون تجاه مختلف العناوين المطروحة في المشهد السياسي اللبناني، ولا سيما ما يتعلّق بقضية المقاومة ومشروع نزع سلاحها.
يفرض هذا المشهد على الأفرقاء المعادين للمقاومة أن يطرحوا على أنفسهم أسئلة حرجة تتعلّق بسياساتهم وخياراتهم ومشاريعهم. ولعلّ أبرز هذه الأسئلة:
هل السلاح في لبنان معزول، أم أنه خيار شعبي واسع ووازن؟
هل لم يعد السلاح محلّ ثقة الناس، أم أنه لا يزال ركيزة من ركائز طمأنينتهم وأملهم؟
هل أصبح السلاح عبئاً على بيئة المقاومة وأهلها، أم أنه لا يزال مصدر عزّها وفخرها؟
هل بات السلاح من الماضي، أم ما زال عنصراً أساسياً فاعلاً في الحاضر، ومؤثّراً في مستقبل لبنان والمنطقة؟
لقد أجاب هذا الحشد الجماهيري الواسع، بوضوح لا لبس فيه، عن كلّ تلك الأسئلة.
إنّ هذا الحضور الشعبي لا يُشكّل فقط تعبيراً عاطفياً، بل هو طاقة حيّة نابضة ستظهر في المحطات المقبلة، ولا سيما في استحقاق الانتخابات النيابية، حيث سيتجلّى الثقل السياسي القوي والوازن للثنائي الوطني، ويتأكّد موقعه الفاعل في قلب الدولة اللبنانية.
هذا الحشد أيضاً يشكّل سداً سياسياً وشعبياً في وجه أيّ مسار تطبيعي أو تسووي مع العدو، بعد أن أسقط فعلياً أوهام “المناطق الاقتصادية” على الأرض اللبنانية. ومن هنا، فإنّ أيّ محاولة لتعديل موقع لبنان في الصراع مع العدو، أو لتحييده، لن تكون نزهة سهلة. فالحضور الشعبي الذي شاهدناه سيكون عنصراً أساسياً في مواجهة مشاريع التقسيم والفتنة، وسيساهم في الحفاظ على وحدة البلاد في وجه مخططات عبّر عنها المبعوث الأميركي توم برّاك، في حديثه عن تغيير الخرائط في المنطقة.
إنّ هذا الجمهور النشط، إذا صحّ التعبير، لن يسمح بكتابة تاريخ لبنان وفق أهواء المحتلين ورغبات الوصاية الخارجية. فالتاريخ الحديث للبنان سيُكتب وفي صفحاته أنّ المقاومة حمت البلاد، وكانت عنواناً لعزّتها وكرامتها، وأنّ القاتل الأميركي لا يمكن أن يُصبح صديقاً، وأنّ لبنان سيظلّ صوتاً حرًاً في المنطقة، وجزءاً لا يتجزّأ من محور المقاومة الصامد.
لن يقبل اللبنانيون بالهزيمة، ولا بثقافتها. وسيظلّ هذا الجمهور، القادر على التضحية والصمود، مساهماً أساسياً في رسم مصير المنطقة ومستقبلها.
لقد أسقط هذا الحضور الجماهيري منذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار، مروراً بالتشييع الشعبي، وهبّة الجنوبيين للعودة إلى قراهم، ووصولاً إلى المشاركة الواسعة في مختلف الفعّاليات المؤيّدة للمقاومة، مشروع “الشرق الأوسط الجديد” من بوابته اللبنانية. فتحوّل جمهور المقاومة إلى سدّ منيع في وجه هذا المشروع وسواه من المخططات.
هذا الجزء الكبير من شعب لبنان، الذي كان دائماً الحاضنة الأوفى للمقاومة، بات اليوم خطّها الأمامي، ودرعها الحامي. وهذا يمثّل أهمّ متغيّر أفرزته حرب “أولي البأس”.
عاد حزب الله ليكون أمّة، وكما قال الشهيد محمد عفيف: “حزب الله أمّة، والأمّة لا تموت”.
وهذا المتغيّر ليس هامشياً ولا تفصيلياً، بل هو تحوّل كبير سيساهم في رسم مستقبل لبنان والمنطقة، في مرحلة جديدة، شديدة الحساسية، مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
وقد قال الشهيد السيد حسن نصر الله يوماً في تأبين القائد الشهيد عماد مغنية: “لقد ترك لكم عماد مغنية آلاف عماد مغنية”، واليوم، يمكن القول بوضوح وقوة وصلابة: إنّ السيد حسن نصر الله قد ترك خلفه شعباً بأكمله يشكّل ذخراً استراتيجياً، قادراً على تغيير المعادلات، وصناعة التاريخ.