طرح المحلل السياسي والعسكري ناصر قنديل قراءة معمقة لمسارات «معركة طوفان الأقصى» بعد عامين من انطلاقتها في 7 أكتوبر 2023، مؤكداً أن هذه المعركة تشكل منعطفاً استراتيجياً قلب موازين القوى وكشف زيف ادعاءات «الجيش الذي لا يقهر».
مقدمة منهجية: لماذا نقرأ طوفان الأقصى كحدث استراتيجي مستقل؟
يرى قنديل أن قراءة المشهد بعد سنتين من المواجهة تستلزم إدراك أن «طوفان الأقصى» حدث قائم بذاته، وله نتائج استراتيجية بعيدة المدى.
أما الحرب التي أعقبته فكانت محاولة لمحو أو إضعاف هذه النتائج، ولذلك لا يمكن فهم ما جرى إلا بإنهاء السردية الساذجة التي تصور الصراع مجرد مباراة تسجيل نقاط بين طرفين.
منطق التاريخ والحرب لا يعمل بهذه الصورة: الكيان لا يربح إلا بنصرٍ مطلق، والمقاومة لا تهزم إلا بهزيمةٍ مطلقة — ولأن النصر المطلق للكيان لم يتحقق، فالمقاومة هي الفائزة ميدانياً واستراتيجياً وفق هذا المنطق.
الضربة الأولى: إسقاط صورة «الجيش الجبار»
قيمة طوفان الأقصى تكمن في أنه من الضربة الأولى أسقط صورة الجيش الأسطوري في وعي حلفائه وشعوب المنطقة والمستوطنين.
أظهر الطوفان أن الاعتماد على الكيان كـ«عصا قوية» بات مشكوكاً فيه، وأن قدرة الجيش على الحماية والجهوزية أصبحت محل تساؤل.
إذ نفذ مقاومون بوسائل محدودة عملية مفاجئة قلبت التوازنات، فـ1200 مقاتل واجهوا — كما وصف — 10,000 جندي مزوّدين بأنظمة متقدمة من تحصينات وحماية فضائية وإلكترونية، ونجحوا في إلحاق هزيمة معنوية واستراتيجية بالكيان.
أثر الصدمة في الداخل الإسرائيلي والغربي
أدى الطوفان إلى اهتزاز ثقة الغرب وقادته بالكيان، وظهور موجات دعم سياسي ودبلوماسي كانت محاولة لاحتواء الخطر الظاهر.
وفي الداخل الإسرائيلي تحول الشك في قدرة الجيش على الحماية إلى رأي عامٍ متزايد، حتى أن المستوطنين أنفسهم باتوا يعيدون النظر في شعورهم بالأمن.
كما هزّ الطوفان رواية التطبيع التي قامت على فرضية أن إسرائيل «تحمي»، بينما تبين أنها تحتاج من يحميها.
الضربات المتواصلة وفشل الجيش في تحقيق إنجاز حاسم
بعد عامين من الحرب، يلفت قنديل إلى أن غزة بقيت محل صمود رغم كل ما أُلقي عليها من إمكانات عسكرية وتقنية ومالية غير محدودة.
فحتى مع التفوق الجوي والعمليات البرية وفرق النخبة، لم يستطع الاحتلال تحقيق إنجاز حاسم أو إخضاع القطاع؛ ما يؤكد أن الكيان فاشل عسكرياً في ميدان القتال الفعلي — يقتل لكنه لا يقاتل.
الخسائر: مقاومة قابلة للترميم مقابل هزيمة تاريخية للكيان
يؤكد المتحدث أن خسائر المقاومة، رغم ضخامتها في الأرواح والعتاد، قابلة للترميم والتعويض: فالمقاومة تولد قادة جدداً، وتدفع أعداداً للتطوع، وتستمر مصانع السلاح المحلية بالعمل في ظروف الحرب. بالمقابل، الخسارة الأكبر وغير القابلة للإصلاح للكيان هي انقلاب الرأي العام الغربي: انكشاف تاريخي ورواية مزوّرة حول فلسطين تحطمت، وبرزت شناختها الأساسية كقضية شعب وحقّ وأرض.
التحول في الوعي العالمي: من دعم أعمى إلى وعي حقوقي
يشير قنديل إلى أن الوعي الغربي تغيّر جذرياً: لم يعد يقتصر دعم إسرائيل على عواطفٍ مُعطّلة، بل ظهرت قراءة جديدة تعيد الاعتبار لحقوق الفلسطينيين وشرعية قضيتهم.
هذا التحول ليس ظرفياً، بل جذري واستراتيجي، ويعيد طرح سؤال شرعية إسرائيل بوصفها قيمة أخلاقية وسياسية لدى الشعوب، حتى لو بقيت قضايا التحالفات الحكومية قائمة لأسباب استراتيجية.
الدروس التكتيكية: إبداع المقاومة وإتقان العمل العسكري
طوفان الأقصى أظهر قدرات تخطيطية وعسكرية عالية لدى المقاومة: قدرة على الاختفاء والتمويه، سريّة وكتمان تحضيرية استمرت أشهراً، وإدارة لوجستيات معقدة تضم عشرات الألوف من المدنيين المتغيرين في أنماط حياتهم لدعم عملية من 1,200 مقاتل؛ كما كشف عن تقنيات تعطيل أنظمة الإنذار العالية، واستخدام صناعات يدوية وتقنيات محلية للتغلب على عقبات ميدانية، وابتكارات في القفز عبر السواتر، والوصول إلى النقاط الحساسة والتقدم فيها.
الأنفاق والقدرة على التجمع والتفرق: بنى عملياتية معقدة
شبكة الأنفاق في غزة برزت كشبكة معقدة متعددة الطبقات — أنفاق فوق أنفاق — ما صعّب على الاحتلال فك شفراتها والنجاح في تفكيكها. كما أبدعت المقاومة في القدرة على التجمع والتفرق بطريقة تشبه «الأكورديون»: زيادة أعداد المقاتلين عند الحاجة ثم التراجع لإضعاف ضربات الاحتلال، ما أظهر كفاءات لوجستية وتكتيكية ميدانية قلّ أن يراها العالم في سياق مشابه.
المحور الموحد: تجارب مقاومة متقاربة وفعل استراتيجي موحد
قنديل يستنتج أن هناك تشابهاً وتكاملاً بين تجارب محور المقاومة (لبنان، اليمن، فلسطين)، وأن محور المقاومة ظهر قوياً وفاعلًا على الرغم من كل الضغوط.
ويعتبر أن طوفان الأقصى سيُدرس كواحد من المعارك التاريخية الكبرى في فنون الحرب غير المتكافئة، كونه أعاد تعريف مفاهيم الجغرافيا والقدرة على الاختراق وأظهر أن الصمود المنظّم قادر على قلب المعطيات.
خاتمة: غزة أظهرت درساً استراتيجياً للعالم
يخلص التقرير إلى أن «طوفان الأقصى» حوّل غزة إلى «أكاديمية عسكرية» بأفكار وتكتيكات ستُدرَّس في علوم الحرب: درس في التخطيط، والتمويه، والابتكار التكتيكي، والقدرة على الصمود والتعويض.
ومن منظور قنديل، فإن النتيجة الاستراتيجية واضحة: المقاومة وحلفاؤها فرضوا مشهداً جديداً في الميدان، وكسروا أسطورة «الجيش الذي لا يقهر»، فيما تبقى غزة رمزاً للصمود ومعملًا للتجربة العسكرية والسياسية التي غيرت قواعد اللعبة لصالح محور المقاومة.
___
خاص/ المشهد اليمني الأول