تدخل حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة عامها الثالث، والمقاومة الفلسطينية لا تزال تقاتل بثباتٍ أسطوري، تُفشل خطط العدو وتُحبط أهدافه رغم آلة الدمار الهائلة التي لم تُبقِ حجراً على حجر. عامان من الصمود تحت النار أكدت خلالها المقاومة أن الانتصار لا يُقاس بالعتاد ولا بعدد الغارات، بل بقدرة الإرادة على الصمود والثبات.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين انطلقت معركة طوفان الأقصى كزلزال قلب موازين القوى، أعلن بنيامين نتنياهو ــ الهارب من العدالة الدولية والمطلوب للمحكمة الجنائية ــ ثلاثة أهداف لما سماه “حرب القضاء على حماس”: القضاء على المقاومة سياسياً وعسكرياً، استعادة الأسرى، وتغيير الواقع الأمني في غزة. لكن بعد عامين من القتل والتدمير، لم يتحقق أيّ من هذه الأهداف. فالمقاومة ما زالت قائمة، والعدو غارق في مستنقع الفشل والإحباط والانقسام الداخلي.
منذ اللحظة الأولى، اعتمد الاحتلال سياسة الأرض المحروقة، فأغرق غزة بالنار والدمار، ظنّاً منه أن الحديد والنار سيكسران إرادة المقاتلين. لكن الميدان قال كلمته. فصواريخ المقاومة ما زالت تنطلق، والكمائن لم تتوقف، والأنفاق تفتح أفواهها كل يوم لتبتلع جنود العدو واحداً تلو الآخر. لقد تحولت غزة إلى مقبرة مفتوحة للغزاة، وفضحت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”.
على الأرض، رسمت المقاومة الفلسطينية ملامح معركة مختلفة عن كل حروب العصر. بخطط مدروسة، وبتكتيكات نابعة من وعي المقاتل وإيمانه، حوّلت فصائل المقاومة القطاع المحاصر إلى جحيمٍ للعدو الغازي. فامتصت صدمة الغارات الأولى عبر شبكة أنفاقٍ محصّنةٍ تربط كل بقعة بأخرى، وأدارت المعارك من تحت الأرض كما من فوقها، بأسلوبٍ يثبت أن القتال في غزة لم يعد مجرد دفاعٍ عن الأرض بل صراع وجودٍ بين إرادتين.
استطاعت المقاومة، رغم القصف والتجويع، أن تمسك بزمام المبادرة الميدانية. كمائنها المحكمة أوقعت وحدات النخبة الإسرائيلية بين قتيلٍ وأسير، وعملياتها المفاجئة في أحياء الشجاعية وخان يونس ورفح أربكت حسابات القيادة العسكرية الصهيونية. لقد تحوّل الميدان إلى مدرسة في فنون القتال الشعبي المنظم، أثبتت فيها الفصائل أن النصر بالإيمان والعقيدة قبل أن يكون بالسلاح والعدد.
سياسياً، أكدت الوقائع أن الاحتلال فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافه. فالمحلل السياسي الفلسطيني ياسر أبو هين يرى أن استمرار المقاومة، وبقاؤها متماسكة بعد عامين من الحرب، يمثل “هزيمة استراتيجية” لإسرائيل. ويقول إن تل أبيب لم تنجح في فرض أيٍّ من شروطها، بل باتت تفاوض المقاومة التي أرادت القضاء عليها. فملف الأسرى الذي استخدمته كورقة ضغط انقلب عليها، وأصبح بيد المقاومة أداة توازنٍ ومعادلة ردعٍ جديدة تفرضها بقوة.
وفي الاتجاه ذاته، يرى الباحث رامي خريس أن الاحتلال وقع في فخّ غزة، إذ تحولت المدينة إلى مقبرة لطموحاته العسكرية، فالمستوطنون في غلاف غزة يعيشون في ذعرٍ دائم، لا يجرؤون على العودة إلى منازلهم رغم كل ادعاءات “الحسم والنصر”. المقاومة ــ كما يقول خريس ــ لم تكتفِ بالصمود، بل أثبتت قدرتها على إدارة معركة طويلة النفس، واستنزاف العدو في كل محورٍ من محاور القتال.
أما في داخل الاحتلال الإسرائيلي، فقد بدأ الاعتراف بالفشل يتسلل من غرف القيادة إلى صفحات الصحف. فالمحلل الصهيوني نداف إيال كتب في “يديعوت أحرونوت” أن “القضاء على حماس هدف غير واقعي”، مؤكداً أن الحركة “متجذّرة في المجتمع الفلسطيني، ولن تختفي مهما بلغت القوة المستخدمة ضدها”. وأضاف أن جيش الإحتلال الإسرائيلي يعيش حالة إنهاك غير مسبوقة، يقاتل في أنفاقٍ لا يعرف نهايتها، ويواجه ضغطاً دولياً وشعبياً هائلاً، بينما تزداد الخسائر يوماً بعد آخر. وأظهرت استطلاعات الرأي داخل إسرائيل أن أكثر من 70% من الإسرائيليين يؤيدون إنهاء الحرب مقابل عودة الأسرى، وهو ما يعني أن الإرهاق النفسي والشعور بالعبث بدأا يلتهمان الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وبعد مرور عامين كاملين على العدوان، يتضح أن النتائج جاءت معاكسة تماماً لما أرادته تل أبيب. فالمقاومة لم تُهزم، بل خرجت أكثر صلابة وتنظيماً وخبرة، بينما تراجع الردع الإسرائيلي وانكشفت هشاشة نظامه الأمني والعسكري أمام العالم بأسره. لقد فشلت إسرائيل في كسر إرادة غزة، وخرجت من الحرب مثخنة بالجراح، تتخبط بين أزمتها السياسية الداخلية ومأزقها العسكري الخارجي، في حين رسخت المقاومة معادلتها الجديدة: النصر بالإيمان والثبات، لا بالعتاد والدعم الأميركي.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل رمز لعقيدة أمةٍ تقاتل عن كرامتها وحقها في الحياة. ومن تحت الركام، تولد الإرادة الفلسطينية من جديد، أقوى مما كانت، لتقول للعالم إن الاحتلال زائلٌ لا محالة، وأن الدم لا يُهزم مهما اشتدت آلة القتل. فهذه الحرب التي أرادها نتنياهو نهاية المقاومة، تحولت إلى ولادة مرحلة جديدة من النهوض الفلسطيني والمقاومة الشاملة، وأثبتت أن القوة الحقيقية ليست في الطائرات ولا في الدبابات، بل في إيمان المقاتلين بعدالة قضيتهم، وثباتهم حتى آخر رصاصة وآخر نفس.